" الجهوية المتقدمة على ضوء الدستور الجديد "
صحيح
أن "التعديل" الدستوري الذي عرفه المغرب في سنة 2011، فرضته ظروف إقليمية
وعربية معينة في إطار ما عرف في مختلف الوسائل الإعلامية "بالربيع العربي"
وكذا تحركات الشارع المغربي. فقد دشن الدستور الجديد لسنة 2011 لعهد
الجهوية المتقدمة، من خلال تنصيصه لحوالي 14 فصل تحدثوا فيها عن التفاصيل
المتعلقة بالتنظيم الجهوي وطرق انتخاب أعضائه، توزيع اختصاصاته وعلاقة هذا
التنظيم بالوالي أو العامل، وغيرها من الأفكار المقترحة في تقرير اللجنة
الاستشارية للجهوية. إن ورش الجهوية يتطلع إلى تمكين المغرب من جهوية
متقدمة ديمقراطية الجوهر مكرسة للتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا
واجتماعيا، وثقافيا وبيئيا، تكون مدخلا لإصلاح عميق لهياكل الدولة من خلال
السير الحثيث المتدرج على درب اللامركزية واللاتمركز الفعليين النافدين
والديمقراطية المعمقة، والتحديث الاجتماعي والسياسي والإداري للبلاد والحكامة الجيدة. ولهذه الأسباب فقد جاء الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، لتكريس ورش الجهوية المتقدمة من خلال التنصيص على مقتضيات متقدمة في هذا المجال. وطبقا لمقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل الأول من الدستور لسنة 2011: "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي يقوم على الجهوية المتقدمة" . هذا الفصل من الباب الأول ربط نظام الجهوية المتقدمة بمبادئ الدولة الراسخة في ثوابت الأمة (الدين، الوحدة الوطنية، الملكية الدستورية والاجتماعية والبرلمانية، فصل السلط والديمقراطية والتشارك والحكامة الجيدة والمحاسبة...). لذلك يندرج اعتماد الجهوية المتقدمة ضمن إعادة الترتيب الترابي داخل الدولة، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمالية والإدارية... تبعا لذلك جاء الفصل 63 من الدستور الذي جعل من الجهات والجماعات الترابية الأخرى شريكا أساسيا في تفعيل السياسة العامة للدولة، وعنصرا مهما في إعداد السياسات الترابية من خلال دعم تمثيلها داخل مجلس المستشارين الذي ينتخب لمدة ست سنوات، وهي نفس مدة انتداب أعضاء مجالس الجهات ومجالس العمالات والأقاليم والجماعات والمقاطعات حيث أصبحت تركيبة مجلس المستشارين تتكون من 90 عضوا على الأقل و120 عضوا على الأكثر، ينتخبون بالاقتراع العام غير المباشر، حيث أضحى ثلاثة أخماس من مجلس المستشارين، يمثلون الجماعات الترابية، يتوزعون بين الجهات حسب عدد سكانها، ومع مراعاة الإنصاف بين الجهات، ينتخب المجلس الجهوي على مستوى كل جهة من بين أعضائه الثلث المخصص للجهة من هذا العدد، وينتخب الثلثان المتبقيان من قبل هيئة ناخبة تتكون على مستوى الجهة، من أعضاء المجالس الجماعية ومجالس العمالات والأقاليم. خمسان من الأعضاء تنتخبهم في كل جهة، هيئات ناخبة تتألف من المنتخبين في الغرف المهنية، وفي المنظمات المهنية للمشغلين الأكثر تمثيلية، وأعضاء تنتخبهم على الصعيد الوطني، هيئة ناخبة مكونة من ممثلي المأجورين. أما الباب التاسع من هذا الدستور فقد خصصت فصوله من 135 إلى 146 كلها للتنظيم الجهوي، حيث جاء في الفصل 135 أن "الجماعات الترابية للمملكة هي الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات". الجماعات الترابية أشخاص معنوية، خاضعة للقانون العام وتسير شؤونها بكيفية ديمقراطية. تنتخب مجالس الجهات والجماعات بالاقتراع العام المباشر، تحدث كل جماعة ترابية أخرى بالقانون، ويمكن أن تحل عند الاقتضاء محل جماعة ترابية أو أكثر من تلك المنصوص عليها في الفقرة الأولى من هذا الفصل . في هذا الفصل الدستوري يكرس البعد الديمقراطي على مستوى الوحدات اللامركزية، كما يهدف المشرع الدستوري من اعتماد الاقتراع العام المباشر في اختبار أعضاء مجالس الجهات والجماعات، إلى تحقيق الديمقراطية المحلية ويسمح بتدبير الشأن العام المحلي للجهات والجماعات. وحدد الفصل 136 مرتكزات التنظيم الجهوي الترابي في مبادئ التدبير الحر، والتضامن ومشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم ثم الرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة. وتتجلى أهمية مبدأ التدبير الحر في كونه أصبح مرجعا أساسيا في تعميق اللامركزية وتنظيم العلاقة بين الدولة والجهات والجماعات الترابية، وتفادي مسألة تنازع الاختصاص، فمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية هو حماية اتجاه الدولة وباقي الجماعات الأخرى. كما أن الفصل 137 ، جعل من الجهات والجماعات الترابية الأخرى أن تساهم في تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين. يهدف المشرع الدستوري من وراء إقرار المساواة بين الجماعات الترابية إلى تحقيق جملة من الأهداف تتمثل- كما سبق ذكره- في بلورة فكرة الجهوية المتقدمة التي تقتضي إسناد صلاحيات التدبير المحلي للأجهزة المنتخبة، ومواكبة الشرعية الجديدة الناتجة عن انتخاب مجالس الجهات والجماعات بالاقتراع العام المباشر، جاعلا بذلك سلطة تنفيذ مداولات ومقررات مجالسها المنتخبة بيد رؤسائها، حيث لم يبقى للعمال صفة الأمر بالصرف ولا صفة السلطة التنفيذية لمجالس الجهات والعمالات والأقاليم، حيث أن رئيس مجلس الجهة ورئيس مجلس العمالة أو الإقليم المنتخب هو الذي سيصبح آمرا بالصرف وممثلا للسلطة التنفيذية على غرار ما هو معمول به لدى مجالس الجماعات الحضرية والقروية. كما أن الأهم ما ورد في الفصل 143 ، الذي بوأ الجهة تحت إشراف رئيس مجلسها، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى، في عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية، وتصاميم إعداد الترابي في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهذه الجماعات. يمكن القول أن الدستور الجديد عمل على التحديد الدقيق لاختصاصات الجماعات الترابية ومنها الجهات ورسم حدود تدخل كل واحدة منها، بتخويلها دستوريا الاختصاصات الذاتية والاختصاصات المشتركة بقانون تنظيمي. ومن المستجدات التي يجب التنويه بها، من خلال الاختصاصات التي كان يمارسها العمال والولاة، باعتبارهم ممثلي الدولة، حيث تحولوا من وضع منفذي المقررات الجماعية إلى هيئات لمساعدة رؤساء المجالس الجهوية في تنفيذ هذه البرامج كما نص عليه في الفصل 145 من الدستور في الفقرة الثالثة على ما يلي: "يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية". إن نص الدستور في المادة 145 واضح في علاقة دور الولاة والعمال بالجماعات الترابية، والذي يتمثل في دور المساعدة على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية، وهو توجه بالانتقال من الوصاية على الجماعات الترابية إلى دور المساعدة. كما أصبح الولاة والعمال لا يما رسون مهمة التنسيق على المستوى المحلي إلا بين أنشطة المصالح اللاممركزة للإدارة المركزية وليس بين المصالح اللامركزية، وهذا طبيعي، باعتبار أن الأولى ممثلة الحكومة، والعامل أو الوالي المعين من قبل هذه الأخيرة لتأمين تنفيذ النصوص التنظيمية للحكومة ومقرراتها وممارستها الرقابة الإدارية على مندوبياتها المحلية، في حين أن رئيس المجلس الجهوي هو ممثل السكان الذين اختاروه عن طريق الانتخاب وهو المسؤول عن تطبيق برنامجه "التعاقدي" مع الساكنة في ظل ما يسمح به القانون العام وهو الأمر بالصرف والمسؤول عن ميزانيته وفاءا للمبدأ الذي أقره الدستور "ربط المسؤولية بالمحاسبة". أصبح الدور يقع على السلطة التشريعية والحكومة الحالية للإسراع في الانكباب على إصدار القوانين التنظيمية خاصة بالجهات ملتزمة فيما تعهدت به في برنامجها الحكومي الذي عرضته على البرلمان، حيث تم التصويت عن القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية تمهيدا لقوانين لاحقة، عملا بمبدأ التدرج في الإصلاح الجهوي. وعموا فالدستور الجديد ليوليوز 2011 جاء بتصور جديد لتنظيم الجهات والجماعات الترابية الأخرى عن طريق تحديد أهداف جديدة للتنظيم الترابي من قبيل تكريس الديمقراطية المحلية وتدعيم مسلسل اللامركزية وبناء جهوية متقدمة وإدخال مفهوم الحكامة الجيدة في تدبير الشؤون المحلية بالإضافة إلى تعزيز إدارة القرب كما حدد مبادئ الحكامة الترابية في مبدأ التدبير الحر، ومبدأ المشاركة، ومبدأ التضامن ومبدأ التفريع، كما عمل الدستور على تبني مرتكزات للتنظيم الجديد للجهات والجماعات الترابية الأخرى عن طريق إعطاء الجهات والجماعات الترابية الأخرى تسمية وتعريف جديدين، بالإضافة إلى توضيح دقيق للاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية أو بين الجماعات الترابية نفسها عن طريق مبدأ التفريع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire