المبحث الثاني: سلطات النيابة العامة
المطلب الأول: مباشرة أو الأمر بمباشرة البحث التمهيدينصت المادة 71 من قانون المسطرة الجنائية على أنه «يستلزم حضور ممثل النيابة العامة في حالة وقوع جناية أو جنحة تخلي ضابط الشرطة عن العملية» وأضافت المادة 78 من نفس القانون قائلة «يقوم ضباط الشرطة القضائية بأبحاث تمهيدية بناءا على تعليمات النيابة العامة أو تلقائيا.
يسير هذه العمليات وكيل الملك أو الوكيل العام للملك كل فيما يخصه»
وفحوى هذان النصان تقودنا إلى أن المشرع قام بإسناد إجراءات البحث التمهيدي أصلا إلى النيابة العامة في حالة وجودها في مسرح الجريمة مع إمكانية إسنادها لضباط الشرطة القضائية في حالة عدم حضورها أو بناءا على رغبة قضاة النيابة العامة مع ضرورة خضوعهم لسلطة هذه الأخيرة والتي تقوم بتسييرهم علما بأن المشرع قد أغفل ذكر معنى هذا التسيير وكيفية القيام به. ولا يهمنا حاليا سوى معرفة أن هناك حالتين لممارسة النيابة العامة (أو من يقوم مقامها) لهذا البحث، الحالة العادية وحالة التلبس. حيث لا تختلف المسطرة في الأحوال العادية عنها في حالة التلبس من حيث الخطوات والتحريات التي يقوم بها ضباط الشرطة القضائية. لكنها تطرح اختلافا جوهريا من حيث السلطات المخولة لهم في تطبيق هذه المسطرة، وهذا الاختلاف يتجلى في سلطتين هما سلطة الوضع تحت الحراسة النظرية ومسطرة تفتيش المنازل( ) وهاتين الحالتين تهدمان مبدأ البراءة المفترضة والتي يبرره البعض بوقوع المجرم في يد العدالة في حالة تلبس وما يؤدي إليه ذلك من نتائج تؤثر لا محالة على هذا المبدأ.
نص المشرع في المادة 56( ) على حالات التلبس واعتبرها بمثابة دليل قاطع على ارتكاب المتهم للجريمة وبالتالي رتب عليها نتائج خطيرة وقد ذهب البعض( ) إلى تقسيم حالات التلبس إلى نوعين:
الفقرة الأولى: حالات التلبس الحقيقية:
وهي الحالات التي تنم حقا عن وجود علاقة قوية بين المتهم والفعل الإجرامي حيث يمكن وبسهولة أن نثبت من خلال هاته الحالات أن المتهم هو الفاعل وهذا ما أدى بالفقه إلى تسميتها بحالات التلبس الحقيقي وتتمثل في:
أولا: حالة ضبط الفاعل أثناء ارتكابه الجريمة:
وهذه الحالة تعني أن الفاعل يشاهد من طرف النيابة العامة عن طريق قضاتها (أو من يقوم مقامهم) وهو ينفذ الركن المادي للجريمة خاصة إذا كانت هذه الجريمة تستغرق وقتا لتنفيذها، حيث يدق تحديد حالة التلبس وتزداد صعوبة كلما كانت الجريمة تنحو إلى السرعة في أدائها حيث يشكل عنصر الزمن أهمية بالغة في تحديد حالة التلبس من عدمها ذلك أنه وفي حالة ارتكاب الفعل الجرمي خلال ثوان معدودة كالطعن بالسكين مثلا فإن الزمن الذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار حتى نكون إزاء حالة التلبس الفعلي للفاعل أثناء ارتكابه الجريمة هي تلك المدة الفاصلة بين دخول السكين جسد الضحية وخروجه منه وهذا ما يميز هذه الحالة عن الحالة التالية.
ثانيا: حالة ضبط الفاعل على إثر ارتكابه الجريمة:
حيث تتحدد هذه الحالة بناء على عنصر الزمن وإن كانت تؤدي إلى نفس النتائج التي تؤدي إليها الحالة الأولى، إلا أنه يجب التمييز بينهما من حيث الزمن والذي يتمثل في هذه الحالة في الوقت الفاصل بين خروج السكين من جسد الضحية في المثال السابق ووقوع الضحية على أبعد تقدير بناء على اتجاه أغلب الفقه الذي ذهب إلى تفسير تعبير المشرع (على إثر إنجازه) على أنه قصد بذلك حصول اكتشاف الجريمة في اللحظة التي يكون الجاني يقوم فيها بآخر عمل يندرج ضمن ماديات الجريمة( ).
وسواء كنا أمام الحالة الأولى أو الثانية فإن تحديد حالة التلبس بالشكل المذكور يتطلب تكوين قانوني جيد على الأقل بالنسبة للأشخاص الذين يقومون بمعاينة الجريمة والحكم بوجودها في حالة تلبس وهذا ما ينطبق على الحالات الأخرى التي تشكل التلبس الافتراضي مع كثير من التحفظ.
الفقرة الثانية: حالات التلبس الافتراضي:
لقد ميز الفقه المغربي بين الحالتين الأوليين واللتين تجسدان التلبس بمفهومه الحقيقي وبين الحالات الآتية التي اعتبرها المشرع بمثابة التلبس مع ما يطرحه ذلك من إشكاليات عميقة.
أولا: مطاردة المشبوه فيه من طرف الجمهور:
إن أصل ونشأة هذه الحالة جاءت أساسا كأثر من آثار متابعة الجماعة المعتدى عليها للمعتدي بالصياح في محاولة للانقضاض عليه والانتقام منه على جريمته( ).
وهذه الحالة تقتضي وجود متهم فارا بعد وقوع جريمة وأن الجمهور يتابعونه على أساس أنه هو مرتكب الجريمة وهذا يعني أن المشرع توسع في أخذه بمفهوم التلبس حيث تمادى في استخدام عنصر الزمن وتراخى هذا العنصر بين وقوع الجريمة وهروب الفاعل وقد يتزامن أن يكون هناك شخص مارا وبمحض الصدفة يرى المجني عليه واقعا فيقترب منه لتفقده فإذا به بصراخ الجمهور من ورائه مما يثير فزعه ويجعله يلوذ بالفرار فيتم إلقاء القبض عليه واعتباره في حالة تلبس، وإذا ما نحن أخذنا بهذا المعيار وأكدنا على هذه الحالة باعتبارها حالة تلبس فإننا بذلك نكون قد أجهزنا على المتهم وبالتالي على حقوقه وإنما يستغرب له فعلا هو كون بعض الحقوقيين يعترفون بأن هذه الحالة تعتبر تلبسا فعلا وهذا ما أكد عليه وزير العدل حيث قال في هاته الحالة «وهي حالة نفترض أن مرتكب الفعل الجرمي لم يتم إيقافه بمكان الجريمة وأنه تمكن من الإفلات، ولكن الجمهور طارده في الحين، وسواءا تم توقيفه آنذاك أو لم يتم توقيفه فإن الجريمة تعتبر جريمة متلبسا بها»( ). إن ما يلاحظ على السيد وزير العدل أنه توسع جدا في أخذه لمفهوم التلبس حيث قال بأنه حتى لو لم يتم التوقيف آنذاك فإن الجريمة تعتبر متلبسا بها، وأي قول هذا؟ إنه يتنافى حتى مع المنطق العقلي السليم لشخص عادي وليس لشخص حقوقي مارس العمل في مجاله سنوات طوال. فكيف يمكن أن نقول بأن الشخص متلبس بجريمة ما وهو ليس بمسرح الجريمة؟ حيث أننا نعتبر أن التلبس يجب أن يكون بمعاينة ضباط الشرطة القضائية للفعل الجرمي أثناء ارتكابه أو على إثر إنجازه على أبعد تقدير وأنه وفي حالة المعاينة من طرف الجمهور فإننا نكون إزاء جريمة عادية مشهودة ويعتبر أولئك الأشخاص شهودا حيث يوجد فرق كبير بين الجرم المشهود والجرم المتلبس به، فهما يشتركان في وجود أشخاص شاهدوا الجريمة ويختلفان فقط من حيث صفة الشاهد، فإذا كان يوصف على أنه أحد أفراد الشرطة القضائية اعتبر الجرم متلبسا به، أما إذا كان الشاهد شخصا لا يحمل صفة الشرطي القضائي فلا يعتبر الجرم إلا جرما مشهودا يطبق عليه البحث في الحالة العادية.
إلا أنه ليست هذه هي الحالة الوحيدة التي توسع فيها المشرع واعتبرها حالة تلبس حيث قام بإدراج حالتين أخرتين لا تشكلان إلا افتراضا لوجود حالة تلبس وهي:
ثانيا: ضبط المتهم حاملا أسلحة أو عليه آثار بعد مرور زمن قصير على ارتكاب الجريمة:
وتقتضي هذه الحالة حسب منظور المشرع أن يكون هناك متهم ثم إلقاء القبض عليه ومعه أدوات لها علاقة بالجريمة التي حدثت أو عليه آثار تدل على ارتكابه أو مشاركته في الفعل الجرمي. وهذا القبض يتم بعد مرور وقت قصير حسب تعبير المشرع. إن أول ما أثار التساؤلات في هذه الحالة هو التعبير الذي استعمله المشرع (وقت قصير) فهو تعبير فضفاض ومرن يطرح تساؤل من له سلطة تحديد هذا الزمن؟
ولقد درج الفقه على محاولة إكمال النواقص التي تعتري النصوص القانونية وهذا ما قام به في هذه الحالة حيث قال البعض بأن هذا التحديد متروك للقاضي لإعمال سلطته التقديرية حسب كل حالة، إلا أن هذا الرأي اعترض عليه البعض بدعوى محاربة تحكمية القضاة وحاولوا تحديد مدة 24 ساعة كحد أقصى لهذه المدة، ولا شك أن هناك اتجاه فقهي آخر أكد على أن هذا الزمن لا يجب أن يتجاوز عدة ساعات، وإن ما يحزننا هو أن نرى المشرع المغربي قد نص على هذا في المادة 56 من المسطرة الجنائية وكذلك المشرع المصري في المادة 30 من قانون الإجراءات الجنائية والمشرع الفرنسي في المادة 53 من قانون المسطرة الجنائية. ولا نغفل وجود بعض الاجتهادات القضائية في هذا الأمر حيث اعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن حالة التلبس قائمة رغم مرور 28 ساعة على ارتكاب الفعل.
إن ما نريد التأكيد عليه هو أن مفهوم التلبس يعني وجود فاعل (الجاني) ومفعول به (ضحية) وضابط للشرطة القضائية أثناء ارتكاب الجريمة، وما عدا ذلك يجب أن يعتبر جريمة عادية وإن كانت الأدلة والقرائن قوية في مواجهة المتهم، وهذا ما يجعلنا نرفض وجود زمن يفصل بين ارتكاب الجريمة وحضور ضابط الشرطة القضائية (وإلقائه القبض على المتهم) إنا نرفض وجود هذا الزمن جملة وتفصيلا إلا إذا وجد متهم (غبي) يجلس بجانب ضحيته في انتظار حضور ضابط الشرطة القضائية لعدة ساعات أو أيام حسب بعض الفقهاء.
إن المنطق القانوني السليم يذهب إلى ضرورة إلغاء هذا الفصل من جذوره من جميع هاته الدول التي تدعي أن الأصل هو البراءة قولا وتنافي ذلك فعلا حيث أعجبني قول أورده الأستاذ الحسن البيهي في كتابه يذهب إلى أن «المشرع المغربي لم يكن في اعتقادنا موفقا كل التوفيق حينما أقر المبدأ أعلاه (مبدأ قرينة البراءة) دون آليات ومبادئ عامة كفيلة بتوضيحه وتفسيره»( ) وهذا القول ينطبق على كل التشريعات السابقة الذكر خاصة إذا ما علمنا وكما سبق أن أشرنا بأنها تخول لضابط الشرطة القضائية سلطات تختلف في حالات التلبس عنها في الحالات العادية.
ثالثا: حالة التماس مالك المنزل من النيابة العامة أو ضابط الشرطة القضائية معاينة الجريمة المرتكبة بداخله:
بكل وضوح لا علاقة لهذه الحالة بمفهوم التلبس، فهي أكثر من أن تعتبر حالة تلبس افتراضي قياسا مع الحالات التي أشير لها سابقا والمنصوص عليها بالمادة 56 من قانون المسطرة الجنائية( ) فهي تعتبر أنه وفي حالة حدثت الجريمة في منزل معين والتماس صاحب هذا المنزل من ضباط الشرطة القضائية معاينة الجريمة كشرطان لقيام هاته الحالة فإننا نكون إزاء حالة التلبس، ولا حاجة لنا بالتذكير على أهمية عنصر الزمن كعنصر أساسي لقيام حالة التلبس وبالتالي إعطاء نتائجها.
فلو افترضنا جدلا بأن صاحب منزل دعا أصدقائه إلى منزله وبعد انقضاء السهرة وخروج الأصدقاء تبين لصاحب المنزل اختفاء شيء ثمين من منزله وبالتالي عمد إلى إبلاغ النيابة العامة والتمس منهم معاينة الجريمة، وبناءا على الفصل المذكور ستقوم النيابة العامة بإلقاء القبض على الأصدقاء كلهم باعتبارهم متلبسين بالجريمة ! فكيف يعقل أن يكون كل الأفراد متلبسين في محضر النيابة العامة وبعد صدور الحكم نجد أن الفاعل هو شخص واحد، إن معنى التلبس يقضي حتما إلى ضرورة إتهام الفاعل ما لم يبرء لفائدة الشك أي أنه لا يوجد دليل يؤكد على أنه المرتكب سوى مشاهدة ضابط الشرطة القضائية.
ونستنتج مما سبق أن حالات التلبس الافتراضية هي حالات بعيدة عن حالات التلبس فعلا وهذا ما يجعلنا نطالب بإصلاح هاته المواد والتأكيد على أن حالات التلبس تقتصر على الحالتين الأولتين والتي صنفهما الفقه على أساس أنهما تشكلان تلبسا حقيقيا.
______________________________
– محمد احذاف: “م.س، من ص458 إلى 464.
– المسطرة الجنائية المغربية، المادة 56.
– نذكر على سبيل المثال الأستاذ أحذاف، م، س، ص372.
– “شرح قانون المسطرة الجنائية”، منشورات وزارة العدل، ج.1، ط.2، ع.2. 2004.
– عمار عبد الحميد النجار: “الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقاتها”، الهامش رقم 1. ص14.
– شرح قانون المسطرة الجنائية، منشورات وزارة العدل، م.س. ص 106.
– لحسن بيهي: “دراسات وأبحاث في قانون المسطرة الجنائية الجديدة”، ط.1، دجنبر 2003، ع.2، ص59.
– ذ. محمد أحذاف: م، س، ص386
المطلب الثاني: تقديم ملتمسات بإجراء تحقيق
إن قيام النيابة العامة بتقديم ملتمس بإجراء تحقيق يطرح عدة إشكالات أهمها يتعلق بمدى تحكمية النيابة العامة في تقديم الملتمسات؟ ومن تم المشكل الذي يطرحه هذا الملتمس بالنسبة لقاضي التحقيق؟ ولما لهذا التحقيق من دور في إظهار براءة المتهمين وبالتالي تأثيره على قرينة البراءة من خلال السلطات التي تمارس أثناءه. فإننا ارتأينا أن نفصل في هذه النقطة بشيء من الإيجاز:
فقد نصت المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية على ثلاث أشكال لسلطة النيابة العامة في تقديم ملتمس هي”:
الفقرة الأولى: إجبارية التحقيق:
حيث تكون النيابة العامة مجبرة بتقديم ملتمس بإجراء تحقيق إلى قاضي التحقيق بناءا على المادة المذكورة في حالات هي:
– كون الجريمة معاقبا عليها بالإعدام، أو بالحبس المؤبد أو السجن لمدة 30 سنة.
– الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث.
– الجنح بنص خاص في القانون.
إن المشكل المطروح بالنسبة لهاته الحالات هو كون النيابة العامة هي التي تحدد وتكيف الأفعال ومن تم تعتبرها داخلة في نطاق هاته الحالة أم لا. وهذا يعني بداهة أن هذه المادة ألزمت النيابة العامة فقط بتقديم الملتمس إذا ما قامت بتكييف الفعل ليدخل ضمن الحالات السابقة، إذ أنه وفي هذه المادة تعتبر الحالة الأولى وهي (الجنايات المعاقبة بالإعدام أو المؤبد أو السجن لمدة 30 سنة) بمثابة الاختبارية لأن النيابة العامة تستطيع اعتبار الجريمة لا تصل إلى ذلك الحد من العقوبة في نظرها، أما الحالة الثانية فلا يستطيع قاضي النيابة العامة إلا أن يقوم بما هو محتم عليه نظرا لوجود أسباب قانونية محددة من طرف المشرع كوجود حدث مثلا فلا شأن لتكييف النيابة العامة في هذه الحالة. أما الحالة الثالثة فإنها تعاني بعض القصور من حيث أن النيابة العامة تكيف الفعل الجرمي حيث يمكن لها أن تتلاعب بالتكييف وتسمي الفعل بغير إسمه لتتلافى تطويل مسطرة المحاكمة بإجراء تحقيق.
الفقرة الثانية: اختيارية التحقيق:
نصت المادة 83 في فقرتها الأخيرة على أنه «يكون اختياريا (التحقيق) فيما عدا ذلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث أو في الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر».
إن ما يشد انتباهنا في هذا النص كونه أورد كلمة “الحد الأقصى” والتي تحيلنا على مفهوم آخر للنص من خلال هاته الكلمة ففضلا عن باقي الجنايات والجنح المرتكبة من طرف الأحداث، نجد باقي الجنح والتي اتجه الفقه( ) إلى اعتبارها قابلة لإجراء تحقيق من الناحية القانونية إذا ما كانت العقوبة المقررة للجنحة كحد أقصى خمس سنوات أو أكثر وهذا يعني أن الفقه قام بإقصاء الجنح التي لا تصل عقوبتها إلى خمس سنوات مع أن منطوق النص يدل على إمكانية هذا التحقيق، فمعنى كلمة حد أقصى تعني أننا نبتدئ من أدنى حد إلى الحد الأقصى مع عدم تجاوز هذا الحد الأقصى أي أن التحقيق يمكن أن يسري في جميع الجنح التي لا تصل إلى 5 سنوات أو أكثر.
وإننا نعلم أن ما ذهب إليه الفقه هو الذي قصده المشرع، لكننا نود لو أننا نستطيع استغلال الخطأ الذي وقع فيه المشرع وبالتالي تدعيم موقف المتهم وإعطائه مهلة أكبر للتحقيق حتى تتبين الحقيقة.
فلو أن المشرع استخدم لفظ “الحد الأدنى” بدلا من “الحد الأقصى” لكان ما ذهب إليه الفقه هو التفسير الصحيح والمنطقي، وبما أن (المشرع) أغفل ذلك نستطيع أن ننبه الفقهاء إلى الدور الذي يستطيعون أن يلعبوه في تحقيق نوع من التوازن وإعادة الأمور إلى نصابها حسب ما كان في ظل القانون القديم للمسطرة الجنائية 1959.
الفقرة الثالثة: المنع من تقديم ملتمس:
لم تكن هاته الحالة موجودة في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 وهذا يعني تراجع المشرع عن مكتسب مهم نوعا ما بالنسبة للبعض، فقد أهمل المشرع ذكر المخالفات في المادة 83 والتي تعني وبمفهوم المخالفة أنه لا يمكن إجراء تحقيق بالمرة وحسب الفقه فإن باقي الجنح والتي لا يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها إلى 5 سنوات، فهي تعتبر من الحالات التي يمنع فيها إجراء تحقيق. وحسبنا أن نذكر بما سبق ذكره من محاولتنا إلى استغلال أخطاء المشرع وهفواته بما يفيد المتهم إعمالا لروح النصوص القانونية والتي تنادي بأن الشك يفسر لصالح المتهم. ورغم أن المفروض في التحقيق أنه يهدف إلى مصلحة المتهم إلا أنه قد يضر بمصالح آخرين نظرا للطبيعة التي أعطاها المشرع لهذا التحقيق، فما هي هذه الطبيعة؟ وما تأثيرها على قرينة البراءة؟
«يحق لقاضي التحقيق توجيه التهمة لأي شخص بصفته فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا في الوقائع المعروضة عليه بناءا على ملتمس النيابة العامة.
إذا علم قاضي التحقيق بوقائع لم يشر إليها في ملتمس إجراء التحقيق يتعين عليه أن يرفع حالا إلى النيابة العامة الشكايات والمحاضر المتعلقة بها».
هذا منطوق المادة 84 الفقرتين الثالثة والرابعة.
حيث أكدت الفقرة الثالثة على عدم شخصية التحقيق أي أن قاضي التحقيق ليس ملزما بالتحقيق فقط مع الأشخاص الذين حددتهم النيابة العامة في الملتمس، بل يمكن أن يتوسع قاضي التحقيق ليشمل هذا التحقيق أشخاصا آخرين وهذا يعني في نظرنا زيادة عدد المتهمين وما يستتبعه ذلك من إهدار لقرينة البراءة بالنسبة لكل متهم. بينما تدل الفقرة الرابعة من هذا النص على أن التحقيق يكتسي صبغة العينية حيث يجب على قاضي التحقيق الالتزام بعين الجريمة والوقائع التي أوكل له وكيل الملك أو الوكيل العام للملك القيام بالتحقيق فيها كنوع من أنواع الفصل بين سلطة التحقيق والمتابعة حيث يجب على قاضي التحقيق أن يقوم بإبلاغ النيابة العامة في حالة وجود وقائع لم تتم الإشارة إليها في الملتمس المقدم إليه، انتظار إدراج ملتمس تكميلي يخص تلك الأفعال واعتبارا لكون التحقيق من النظام العام حسب الفقه وكذلك لكونه من الحقوق والضمانات الممنوحة للمتهم فإننا نتساءل عن سبب وضع حق من حقوق المتهم بيد خصمه النيابة العامة في الحالات التي يكون فيها التحقيق اختياريا هذا من جهة، إضافة إلى كون المشرع حرم المتهم من هذا الحق في الحالات التي يمنع فيها إجراء تحقيق.
____________________
– “شرح قانون المسطرة الجنائية” منشورات وزارة العدل، ج.1، ط.2، ع.2، 2004، ص224.
إن قيام النيابة العامة بتقديم ملتمس بإجراء تحقيق يطرح عدة إشكالات أهمها يتعلق بمدى تحكمية النيابة العامة في تقديم الملتمسات؟ ومن تم المشكل الذي يطرحه هذا الملتمس بالنسبة لقاضي التحقيق؟ ولما لهذا التحقيق من دور في إظهار براءة المتهمين وبالتالي تأثيره على قرينة البراءة من خلال السلطات التي تمارس أثناءه. فإننا ارتأينا أن نفصل في هذه النقطة بشيء من الإيجاز:
فقد نصت المادة 83 من قانون المسطرة الجنائية على ثلاث أشكال لسلطة النيابة العامة في تقديم ملتمس هي”:
الفقرة الأولى: إجبارية التحقيق:
حيث تكون النيابة العامة مجبرة بتقديم ملتمس بإجراء تحقيق إلى قاضي التحقيق بناءا على المادة المذكورة في حالات هي:
– كون الجريمة معاقبا عليها بالإعدام، أو بالحبس المؤبد أو السجن لمدة 30 سنة.
– الجنايات المرتكبة من طرف الأحداث.
– الجنح بنص خاص في القانون.
إن المشكل المطروح بالنسبة لهاته الحالات هو كون النيابة العامة هي التي تحدد وتكيف الأفعال ومن تم تعتبرها داخلة في نطاق هاته الحالة أم لا. وهذا يعني بداهة أن هذه المادة ألزمت النيابة العامة فقط بتقديم الملتمس إذا ما قامت بتكييف الفعل ليدخل ضمن الحالات السابقة، إذ أنه وفي هذه المادة تعتبر الحالة الأولى وهي (الجنايات المعاقبة بالإعدام أو المؤبد أو السجن لمدة 30 سنة) بمثابة الاختبارية لأن النيابة العامة تستطيع اعتبار الجريمة لا تصل إلى ذلك الحد من العقوبة في نظرها، أما الحالة الثانية فلا يستطيع قاضي النيابة العامة إلا أن يقوم بما هو محتم عليه نظرا لوجود أسباب قانونية محددة من طرف المشرع كوجود حدث مثلا فلا شأن لتكييف النيابة العامة في هذه الحالة. أما الحالة الثالثة فإنها تعاني بعض القصور من حيث أن النيابة العامة تكيف الفعل الجرمي حيث يمكن لها أن تتلاعب بالتكييف وتسمي الفعل بغير إسمه لتتلافى تطويل مسطرة المحاكمة بإجراء تحقيق.
الفقرة الثانية: اختيارية التحقيق:
نصت المادة 83 في فقرتها الأخيرة على أنه «يكون اختياريا (التحقيق) فيما عدا ذلك من الجنايات وفي الجنح المرتكبة من طرف الأحداث أو في الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر».
إن ما يشد انتباهنا في هذا النص كونه أورد كلمة “الحد الأقصى” والتي تحيلنا على مفهوم آخر للنص من خلال هاته الكلمة ففضلا عن باقي الجنايات والجنح المرتكبة من طرف الأحداث، نجد باقي الجنح والتي اتجه الفقه( ) إلى اعتبارها قابلة لإجراء تحقيق من الناحية القانونية إذا ما كانت العقوبة المقررة للجنحة كحد أقصى خمس سنوات أو أكثر وهذا يعني أن الفقه قام بإقصاء الجنح التي لا تصل عقوبتها إلى خمس سنوات مع أن منطوق النص يدل على إمكانية هذا التحقيق، فمعنى كلمة حد أقصى تعني أننا نبتدئ من أدنى حد إلى الحد الأقصى مع عدم تجاوز هذا الحد الأقصى أي أن التحقيق يمكن أن يسري في جميع الجنح التي لا تصل إلى 5 سنوات أو أكثر.
وإننا نعلم أن ما ذهب إليه الفقه هو الذي قصده المشرع، لكننا نود لو أننا نستطيع استغلال الخطأ الذي وقع فيه المشرع وبالتالي تدعيم موقف المتهم وإعطائه مهلة أكبر للتحقيق حتى تتبين الحقيقة.
فلو أن المشرع استخدم لفظ “الحد الأدنى” بدلا من “الحد الأقصى” لكان ما ذهب إليه الفقه هو التفسير الصحيح والمنطقي، وبما أن (المشرع) أغفل ذلك نستطيع أن ننبه الفقهاء إلى الدور الذي يستطيعون أن يلعبوه في تحقيق نوع من التوازن وإعادة الأمور إلى نصابها حسب ما كان في ظل القانون القديم للمسطرة الجنائية 1959.
الفقرة الثالثة: المنع من تقديم ملتمس:
لم تكن هاته الحالة موجودة في قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 وهذا يعني تراجع المشرع عن مكتسب مهم نوعا ما بالنسبة للبعض، فقد أهمل المشرع ذكر المخالفات في المادة 83 والتي تعني وبمفهوم المخالفة أنه لا يمكن إجراء تحقيق بالمرة وحسب الفقه فإن باقي الجنح والتي لا يصل الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها إلى 5 سنوات، فهي تعتبر من الحالات التي يمنع فيها إجراء تحقيق. وحسبنا أن نذكر بما سبق ذكره من محاولتنا إلى استغلال أخطاء المشرع وهفواته بما يفيد المتهم إعمالا لروح النصوص القانونية والتي تنادي بأن الشك يفسر لصالح المتهم. ورغم أن المفروض في التحقيق أنه يهدف إلى مصلحة المتهم إلا أنه قد يضر بمصالح آخرين نظرا للطبيعة التي أعطاها المشرع لهذا التحقيق، فما هي هذه الطبيعة؟ وما تأثيرها على قرينة البراءة؟
«يحق لقاضي التحقيق توجيه التهمة لأي شخص بصفته فاعلا أصليا أو مساهما أو مشاركا في الوقائع المعروضة عليه بناءا على ملتمس النيابة العامة.
إذا علم قاضي التحقيق بوقائع لم يشر إليها في ملتمس إجراء التحقيق يتعين عليه أن يرفع حالا إلى النيابة العامة الشكايات والمحاضر المتعلقة بها».
هذا منطوق المادة 84 الفقرتين الثالثة والرابعة.
حيث أكدت الفقرة الثالثة على عدم شخصية التحقيق أي أن قاضي التحقيق ليس ملزما بالتحقيق فقط مع الأشخاص الذين حددتهم النيابة العامة في الملتمس، بل يمكن أن يتوسع قاضي التحقيق ليشمل هذا التحقيق أشخاصا آخرين وهذا يعني في نظرنا زيادة عدد المتهمين وما يستتبعه ذلك من إهدار لقرينة البراءة بالنسبة لكل متهم. بينما تدل الفقرة الرابعة من هذا النص على أن التحقيق يكتسي صبغة العينية حيث يجب على قاضي التحقيق الالتزام بعين الجريمة والوقائع التي أوكل له وكيل الملك أو الوكيل العام للملك القيام بالتحقيق فيها كنوع من أنواع الفصل بين سلطة التحقيق والمتابعة حيث يجب على قاضي التحقيق أن يقوم بإبلاغ النيابة العامة في حالة وجود وقائع لم تتم الإشارة إليها في الملتمس المقدم إليه، انتظار إدراج ملتمس تكميلي يخص تلك الأفعال واعتبارا لكون التحقيق من النظام العام حسب الفقه وكذلك لكونه من الحقوق والضمانات الممنوحة للمتهم فإننا نتساءل عن سبب وضع حق من حقوق المتهم بيد خصمه النيابة العامة في الحالات التي يكون فيها التحقيق اختياريا هذا من جهة، إضافة إلى كون المشرع حرم المتهم من هذا الحق في الحالات التي يمنع فيها إجراء تحقيق.
____________________
– “شرح قانون المسطرة الجنائية” منشورات وزارة العدل، ج.1، ط.2، ع.2، 2004، ص224.
المطلب الثالث: استعمال وسائل الطعن ضد ما يصدر من مقررات
يعترف لقاضي النيابة العامة بحق استئناف جميع الأوامر القضائية الصادرة عن قاضي التحقيق ما عدا تلك الخاصة بإجراء بإجراء خبرة وذلك حسب المادة 222 من قانون المسطرة الجنائية( ).
إن ما يهمنا من هذه المادة هو كون الأمر الصادر بالإفراج المؤقت من طرف قاضي التحقيق لا يسري إلا بموافقة النيابة العامة أو بانصرام أجل الاستئناف لهذا الأمر المادة “222 الفقرة 3″ حيث يتم الإبقاء على المتهم في حالة اعتقال إلى أن يتم البث في هذا الاستئناف (الفقرة الأخيرة) وهذا يجعلنا نتساءل عن أهمية تنصيص المشرع على عينية التحقيق بالنسبة للمتهم؟
حيث أنه وكما سبق الذكر فإن عينية التحقيق تخول لقاضي التحقيق أن يقوم بمتابعة أشخاص لم يتم التنصيص عليهم في ملتمس التحقيق أي أن المشرع خول لقاضي التحقيق سلطة المتابعة بناءا على هذا الأمر، ولكنه وبالمقابل ميز بين قوة حضور قاضي التحقيق بالنسبة لحالة الاتهام عنها في حالة التبرءة ولو كانت هذه التبرئة جزئية، حيث لا يستطيع قاضي التحقيق أن يقوم بالإفراج عن المتهم في هذه الحالة إلا بسلوك مسطرة معقدة أسهل ما فيها أن يتم موافقة النيابة العامة على هذا الإفراج وما يعنيه ذلك من ضرورة إبلاغها بقرار قاضي التحقيق وحصوله على الموافقة. فما معنى أن تكون لقاضي التحقيق سلطة واسعة في ملاحقة الأشخاص بناءا على ملتمس التحقيق ولا تكون له سلطة موازية وعلى نفس الأشخاص في الاتجاه العكسي (اتجاه إخلاء السبيل) هذا ينم على أن سياسة المشرع تتجه إلى زيادة عدد المتهمين وتوسيع قاعدتهم وإهدار حقوقهم في التمتع بالسراح إلى أن تتم إدانتهم وتجدر الإشارة إلى أنه غالبا ما يتم التذرع وراء حجة عدم وجود ضمانات لحضور المتهم أو الخوف من فراره والرد على هذه الحجج هو مضمون المادة 161 والتي نصت على وجود ضمانات لوضع المتهم تحت المراقبة القضائية حيث يمكن استبدال الأمر بالإيداع في السجن بالوضع تحت المراقبة القضائية لما يحققه من نتائج إيجابية مقارنة مع الأمر السابق.
المطلب الرابع: السهر على احترام إجراءات الحراسة النظرية وآجالها
من المتعارف عليه أن النيابة العامة تسير أعمال الشرطة القضائية والتي يدخل ضمن اختصاصها القيام بوضع المتهم تحت الحراسة النظرية، وقد نصت المادة 66 على أن هذا الوضع يكون لمدة معينة قابلة للتجديد وهذا ما يطرح بعض التساؤلات من هذه الناحية(أ) إضافة إلى الإشكاليات التي يطرحها هذا الوضع لكونه عملا ماسا بحقوق المتهم(ب) دون إغفال ضمانات المتهم وحقوقه أثناء هذا الوضع(ج).
الفقرة الأولى: مدة الوضع تحت الحراسة وتمديدها:
نصت المادة السابقة على أن مدة الوضع تحت الحراسة تختلف حسب نوع الجريمة وهي لا تخرج عن ثلاث حالات هي:
1- الجنايات والجنح في حالتهما العادية أو المتلبس بها: وتكون المدة 48 ساعة قابلة للتجديد لمدة 24 ساعة فقط، بعد إذن النيابة العامة.
2- الجرائم الماسة بأمن الدولة: وفيها تكون الحراسة لمدة 96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة فقط بنفس المدة بعد إذن النيابة العامة.
3- جرائم الإرهاب: مدتها 96 ساعة قابلة للتجديد مرتين بنفس المدة، بعد إذن النيابة العامة.
إن الإشكاليات التي تطرحها الحراسة النظرية اعتمادا على مدتها وما يترتب عليه من نتائج تظهر من خلال المدة القصيرة لهذه الحراسة والتي تعني أن البحث لن يطول إلا بامتداد مع هذه المدة، ناهيك عن الإشكالية التي تطرحها إطالة مدة الحراسة من حيث تحكمها في حريات الأفراد، وهذا لا يعني أن الإشكالية معقدة بل إن حلها أسهل مما هو متوقع. فقد كان واجبا على المشرع الفصل بين مدة الوضع تحت الحراسة وزمن إجراء البحث وذلك لنخول لضابط الشرطة القضائية المدة الكافية لإجراء البحث وعدم إغفال أي إجراء يؤثر على مجريات البحث وبالتالي المحاكمة وذلك لكونه يتسابق مع الزمن الواجب عليه احترامه نظرا لوضعه المتهم تحت الحراسة النظرية حيث يمكنه (المشرع) أن يوفق بين مصلحة المتهم من جهتين هما عدم وضعه تحت الحراسة وكذلك إجراء البحث في مدة كافية لإظهار كل ما يتعلق بالواقعة وذلك من خلال التنصيص على شروط لوضع المتهم تحت الحراسة، فما هي هذه الشروط؟ وكيف يمكن أن تخدم مصلحة المتهم؟ ولا ننسى أن تحديد مدة الوضع تحت الحراسة وتمديدها تطرح إشكال متى يمكن للمتهم أن يتصل بمحاميه إذا كان لا يشعر بانتهاء مدة الوضع تحت الحراسة وابتداء المدة الجديدة بعد التمديد.
الفقرة الثانية: الوضع تحت الحراسة النظرية كتدبير استثنائي:
أتاح المشرع لضابط الشرطة القضائية إمكانية وضع المتهم تحت الحراسة النظرية، لكنه اشترط لإمكانية ذلك بعض الشروط هي:
1- أن تتطلب ذلك ضرورة البحث:
لقد اشترط المشرع على الشرطة القضائية ألا تلجأ إلى تدبير الوضع تحت الحراسة النظرية إلا إذا كانت ضرورة البحث تقتضي ذلك ولكنها بالمقابل لم تذكر معنى هذه الضرورة مما أدى إلى توسع أفراد الشرطة القضائية في الأخذ بمفهوم هذه المادة ومارسوها حسب مزاجيتهم تحت تعليل أن ضرورة البحث تقتضي ذلك.
2- أن يكون معاقبا على الجريمة المرتكبة بالحبس:
إن هذا الشرط يعتبر منطقيا جدا، فكيف يمكن أن نحبس متهما من أجل إجراء بحث في حين أن هذه الجريمة لا ترتب أي عقوبة حبسية؟
ولكن رغم أن هذه الحالة تعتبر كضمانة للمتهم إلا أنها تظهر لنا تميز المشرع بين حالتين يتم فيهما المساس الجلي بقرينة البراءة.
فإن كان أساس عدم إمكانية الوضع تحت الحراسة النظرية ينبني على اعتبار أن العقوبة المحددة لتلك الجريمة لا تصل إلى عقوبة الحبس فهذا يعني صراحة بأن المشرع أخذ بأن المتهم هو الفاعل الحقيقي وليس مشتبه به يضعه تحت الحراسة من أجل ضرورة البحث وأن المشرع ضحى بحق الضحية في حالة ارتكاب فعل جرمي لا يرتب إلا غرامة (مع الإشارة إلى حق المطالب بالحق المدني في التعويض عن طريق الدعوى المدنية التابعة).
فقد ضحى المشرع بذلك الحق لكنه لم يسمح بإمكانية الوضع تحت الحراسة في هذا النوع من الجرائم وذلك لإمكانية فرار ذلك المتهم وضياع حق الضحية. إن هذا يوضح لنا جليا بأن المشرع غايته من إقرار هذا الشرط ليس التأكيد على أن الوضع تحت الحراسة النظرية يعتبر وضعا استثنائيا كما يشير إلى ذلك بعض الفقه( ) وإنما أصبح هو المبدأ، وما يؤكد هذا القول هو أن المشرع لم يرتب أي جزاء على خرق هذه الشروط من طرف ضابط الشرطة القضائية سوى تعريضه لعقوبات تأديبية إذا ما كان هذا الخرق متعمدا وتعسفي (أو تحكمي كما يطلق عليه البعض) ولكن هذا لا يعني أن المشرع لم يعطي للمتهم ضمانات خلال هذا الوضع والتي تتمثل فيما يلي:
الفقرة الثالثة: ضمانات المتهم أثناء الوضع تحت الحراسة النظرية:
نص المشرع على ضرورة احترام بعض الإجراءات والتي تشكل ضمانات للمتهم خلال مدة وضعه تحت الحراسة النظرية وهذه الضمانات هي:
1- إشعار عائلة المتهم:
يعاب على هذه الضمانة كونها لم تحدد الأشخاص الواجب إشعارهم، زيادة إلى عدم وجود جزاء للإخلال بهذا الإجراء والذي يؤدي إلى عدم احترامه وبالتالي إفراغ هذه الضمانة من المحتوى واعتبارها في حكم المنعدمة اعتبارا لكون هذا الإجراء إداري في نظر الفقه والقضاء لا يرتبون على مخالفته بطلان الإجراءات.
2-الاتصال بمحام:
وهذا الاتصال يطرح إشكالية إثبات إبلاغ ضابط الشرطة القضائية للمتهم في حقه بتعيين محام وكذلك إشكالية أخرى تتمثل في أن هذا الاتصال لا يتم إلا بعد تمديد مدة الوضع تحت الحراسة النظرية.
3-رقابة النيابة العامة لإجراء الوضع تحت الحراسة:
تمارس النيابة العامة بوصفها مسيرا لأعمال الشرطة القضائية رقابة أعمال هذه الأخيرة، ومن ضمن الأعمال التي تخضع لهذه الرقابة الوضع تحت الحراسة وهذه الرقابة تكون على مرحلتين:
*رقابة سابقة على الوضع تحت الحراسة النظرية.
وتتمثل في ضرورة حصول الشرطة القضائية على إذن مسبق من النيابة العامة قبل لجوئها إلى الوضع تحت الحراسة النظرية، إلا أن هذا الإذن يشترط فقط في حالة الجرائم المرتكبة في الأحوال العامة، أما الجرائم المرتكبة في حالة تلبس فقد منح المشرع الشرطة القضائية سلطة القيام بهذا الإجراء دون حاجة إلى الحصول على إذن مسبق من النيابة العامة ولا نحتاج إلى التذكير بكيفية توسيع المشرع لقاعدة الجرائم المتلبس بها من خلال إدراج الحالات التي اصطلح عليها الفقه بالتلبس الافتراضي.
*رقابة لاحقة للوضع تحت الحراسة النظرية:
أوجب المشرع على النيابة العامة القيام بمراقبة الوضع تحت الحراسة من خلال المادة 66( ) وذلك بالكيفيات التالية:
– يقوم وكيل الملك بزيارة واحدة في الأسبوع على الأقل للأماكن التي يتم فيها الوضع تحت الحراسة مع إمكانية قيامه بزيارات متعددة وضرورة قيامه بمحضر موقع عند كل زيارة.
– يوقع وكيل الملك على السجل المرقم الصفحات والذي يوجد في كل المحلات التي يوضع فيها الأشخاص تحت الحراسة النظرية ويكون هذا التوقيع مرة في كل شهر على الأقل.
– يمكن للنيابة العامة الحد من الوضع تحت الحراسة النظرية في أي وقت شاءت.
ورغم ما سبق ذكره من الضمانات فإن هذا الوضع يعتبر غير منطقي من الناحية القانونية وذلك أنه كيف يمكن أن تتم المراقبة من نفس الجهاز الذي يقوم بالعمل؟ فالمتعارف عليه والذي يحتمه المنطق القانوني أن سلطة الرقابة يجب أن تكون منفصلة عن سلطة المتابعة، حيث أن النيابة العامة هي المسؤولة وفي نهاية المطاف عن أعمال الشرطة القضائية بصفتها مسيرة لها فكيف يمكن أن نعتبر أن هذه السلطة والتي تتابع المتهم تطمح إلى المحافظة على حقوق وضمانات المتهم وهي من قامت بوضعه أصلا. لقد كان جديرا بالمشرع أن يوكل مهمة رقابة الوضع تحت الحراسة النظرية وغيرها من الإجراءات ذات الطابع القسري وكضمانة للمتهم تحت سلطة جهاز محايد ومتخصص، مع الإشارة إلى ضرورة الحفاظ على استقلال القضاء وقضاة النيابة العامة بشكل خاص، بأن يكون هذا الجهاز غير ذي سلطة على قضاة النيابة العامة حيث يمكن أن يثير مسؤولية النيابة العامة في حالة خرقها للقانون ويسائلها أمام القضاء دون أن يكون لهم حق إيقاع عقوبات أو اتخاذ أي إجراءات كيفما كان نوعها إلا تلك التي تثير مسؤولية جهاز النيابة العامة.
المطلب الخامس: اقتناع النيابة العامة وملائمة المتابعة
يأتي اقتناع النيابة العامة بكون المشتبه به (المتهم) هو مرتكب الجريمة في مرتبة تفصل بين مرحلتين، مرحلة ما قبل المحاكمة (بحث تمهيدي وتحقيق إعدادي) ومرحلة المحاكمة، فالنيابة العامة لها كامل الصلاحية وبناءا على ما يصل إلى علمها من وقائع على جريمة معينة من خلال البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي أن تتخذ أحد القرارين التاليين واللذان يؤديان إلى انتهاء مرحلة ما قبل المحاكمة وهما:
الفقرة الأولى: قرار حفظ الملف
تقوم النيابة العامة باستخدام حقها في حفظ الملف بناءا على المادة 49 في فقرتها ما قبل الأخيرة، حيث أشار المشرع أن للنيابة العامة الحق في حفظ الملف ولم يحدد إلا أسبابا قليلة فسرت على أنها وردت على سبيل المثال لا الحصر، وهذا يعني أن سلطة النيابة العامة في هذا المجال تعتبر سلطة مطلقة ويعزو واضعو المدونة هذه السلطة إلى كون النيابة العامة وفي بعض الأحوال لعدم وجود دليل قوي أو في حالة عدم معرفة الجاني تقوم بحفظ الملف لتخفف عن المحكمة عبئ النظر في قضايا لا طائل منها، وهذا التفسير منطقي إلى حد كبير، لكن ما نتسائل عنه نحن هو مدى التزام النيابة العامة بأسباب كالأسباب المذكورة لحفظ الملف؟ ألا يمكن أن تستغل النيابة العامة هذا الحق أو هذه السلطة لخدمة مصالحها خاصة إذا ما عرفنا أن جهاز النيابة العامة مترابط كما سبق الذكر.
الفقرة الثانية: قرار إحالة الملف على جلسة الحكم
يعتبر هذا القرار بمثابة حكم بالإدانة من طرف النيابة العامة، حيث أنها ومن خلال إحالة الملف إلى قضاء الحكم ترشح ذلك المتهم باعتباره مرتكبا للفعل الجرمي، وهذا القرار يعتبر الوجه الثاني لقرار حفظ الملف وفي الحالات التي لا يحفظ فيها الملف تتم إحالته على قضاء الحكم وهذا يعني بالضرورة أن زيادة عدد قرارات حفظ الملف تؤدي إلى تقليص عدد المتابعات والعكس صحيح. وما يهمنا في هذه العلاقة هو أن المشرع لم يحدد أسباب قاطعة لحفظ الملف وهذا يعني أنه أتاح المجال للنيابة العامة بإحالة أعداد كبيرة من الملفات إلى قضاء الحكم رغم أنه وفي بعض الحالات لا توجد علاقة متينة بين الفعل الإجرامي والمشتبه به أو المتهم الذي تمت إحالة ملفه على الجلسة وما يترتب على ذلك من مساس بقرينة البراءة، وقد ذهب المشرع الفرنسي إلى ضرورة وجود علاقة بين الفعل الإجرامي والمشتبه به حتى يمكن متابعته وتحريك الدعوى العمومية في مواجهته ومن تم ممارستها، وهذا ما يدل على حماية المشرع الفرنسي للمتهم وتمتيعه بقرينة البراءة.
__________________________
– “يحق للنيابة العامة أن تستأنف لدى الغرفة الجنحية كل أمر قضائي يصدره قاضي التحقيق باستثناء الأوامر الصادرة بإجراء خبره طبقا لمقتضيات المادة 196″. المسطرة الجنائية المغربية، المادة 222.
– محمد عياط: م، س، ص103.
– المسطرة الجنائية المغربية “الفقرات السادسة، الحادية عشر، الثانية عشر، الثالثة عشر، الرابعة عشر والأخيرة”.
الفصل الثاني : القضاء الجالس
المبحث الأول: مؤسسة قاضي التحقيق
نظرا للمفهوم الضيق والخطير الذي تعتمد عليه النيابة العامة ومصالحها لمفهوم قرينة البراءة كأصل وقيمة دستورية كبيرة، وكمفهوم متفق عليه دوليا، واعتبار لتأججات الفقهية والاجتماعية حول الموضوع( ) ووعيا من المشرع بخطورة هذا الجهاز الذي يمثل اليد الغاشمة لمقتضيات السياسة الجنائية( ) عمد المشرع إلى الحد وإضعاف من صلاحيات هذا الجهاز عن طريق جعل التحقيق الإعدادي في الجنايات وبعض الجنح من اختصاص قاضي التحقيق لما تمثله من خطورة على المتهم، وتحقيق لمفهوم العدالة الجنائية، والسير على التطور الذي يعرفه العالم في تحقيق حقوق الإنسان.
بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية وبمجرد ذكر التحقيق الإعدادي يبادر للذهن مباشرة قاضي التحقيق، وهذا يعني أن هناك علاقة وثيقة ومباشرة بين التحقيق الإعدادي وقاضي التحقيق ولا غرابة في ذلك.
فقاضي التحقيق هي الجهة الأم والأصلية التي أوكل إليها المشرع مهمة إنجاز التحقيق الإعدادي والقيام بمهامه وأعبائه.
ويعتبر قاضي التحقيق من القضاة الجالسين وهو الساهر الأول على إنجاز التحقيق الإعدادي بحيث قال فيه الأستاذ بير دوفي المحامي العام بمحكمة الاستئناف بالرباط في ندوة وزارة العدل المنعقدة بتاريخ 20 أبريل 1959 بأن «هذا الرجل الذي يملك سلطات واسعة ويتصرف في حرية المواطنين وشرفهم يباشر مهمته ضمن شبكة القوانين العسيرة حيث ينبغي له أن يستعمل عمله وخبرته، لكن في نهاية الأمر إنما هي صفاته الأخلاقية وضميره وفضائله التي تكسب مهمته عظمتها الحقيقة»( ).
ويعتبر إبقاء المشرع بل وتطوير هذه المؤسسة( ) من المكتسبات المهمة التي رسختها مدونة مسطرة الجنائية الجديدة لما توفره من ضمانات قانونية للمتهم والمجتمع على حد سواء، مما يتعين عليها الوصول إلى حقيقة في مجال لا يخلو من تعقيد واستنكار للخروقات التي تقوم بها النيابة العامة.
وبالرجوع إلى المادة 52 من ق م ج نستشف أن المشرع المغربي تبنى ثنائية التحقيق وذلك لجعل التحقيق على مستوى المحاكم الابتدائية بالإضافة إلى تواجده بمحاكم الاستئناف دعامة لتحقيق العدالة الجنائية وإصلاح مفهوم البراءة لدى النيابة العامة من جهة وأسوة ببعض التشريعات المقارنة كالتشريع المصري وذلك من خلال المادة 64 من قانون الإجراءات الجنائية المصرية التي نصت على أنه «إذا أرادت النيابة العامة في مواد الجنايات والجنح أن تحقيق الدعوى بمعرفة قاضي التحقيق أكثر ملاءمة بالنظر إلى ظروفها الخاصة بأن لها في أية حالة كانت عليها الدعوى أن تخابر رئيس المحكمة الابتدائية وهو يندب أحد قضاة المحكمة لمباشرة هذا التحقيق”.
ويجوز للمتهم أو للمدعى بالحقوق المدنية أن يطلب من رئيس المحكمة الابتدائية إصدار قرار بهذا الندب ويصدر رئيس المحكمة هذا القرار إذا تحققت الأسباب المبينة بالفقرة السابقة بعد سماع أقوال النيابة العامة ويكون قراره غير قابل للطعن وتستمر النيابة العامة في التحقيق حتى يباشرها القاضي المندوب في حالة صدور قرار بذلك( ).
ومن الأسباب الرئيسية التي دفعت بالمشرع المغربي إلى إعادة النظر في تنظيم وتقسيم مؤسسة قاضي التحقيق الانتقادات الخطيرة التي وجهت للنيابة العامة في تحديدها للسياسة الجنائية من جهة والتحول والتطور العميق الذي شهده المغرب خلال السنوات الأخيرة من أجل إصلاح السياسة الجنائية لما يخدم حقوق الإنسان وحفظ كرامة المتهم أثناء التحقيق الإعدادي عن طريق توفر كل الضمانات القانونية في هذه المرحلة وتركيز سيادة دولة الحق والقانون وكذا نتيجة لدخوله عتبة القرن الواحد والعشرين الذي تكتسحه عولمة الاقتصاد وعالمية القانون الجنائي.
وقد أكد هذا التوجه المغفور له صاحب الجلالة الحسن الثاني عند استقباله لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 24 أبريل 1995 وذلك بقوله «إن المغرب إذا أراد أن ينفتح على العالم يجب أن يكون كذلك قضاؤه متفتحا وفي مستوى قضاء العالم لأنه لا يمكن ذلك الحال الأجنبي عارفا أنه في مأمن الشطط وسوء الفهم، فالقضاء اليوم لم يصبح فقط أساسا لطمأنينة الرعية والمجتمع بل أصبح ضروريا للنماء».
إلا أنه إذا كان المشرع قد راهن على مسطرة التحقيق الإعدادي عن طريق توفير كل الضمانات التي انتهكت أمام النيابة العامة، وكانت موضوع السخط داخل الفقه، كعدم التسرع بإحالة المتهم على جلسات الحكم والمحاكمة على ما تم تضمينه في محاضر الضابطة القضائية والله وحده يعلم كيف وبأي وسيلة وبأية نية ضمن من طرف الضابطة القضائية( ). ولا يسعنا إلا التنويه باختيارات المشرع بالعودة إلى الوضع السابق عن ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 وذلك من خلال النص على مبدأ ثنائية التحقيق على مستوى المحاكم الابتدائية وكدا محاكم الاستئناف كإجراء مسطري على قدر كبير من الأهمية يسبق إجراء إحالة الملف على هيئة الحكم.
وخاصة التأكيد على مبدأ محاكمة المتهم بناء على تحقيقات معمقة وذلك عوض محاكمة بناء على محاضر الشرطة القضائية المنافية للعدالة الجنائية خاصة آجال الوضع تحت الحراسة النظرية والتي لا تسمح بكل وضوح بسبب الضغوط هذه الآجال من جهة وقلة خبرة هذه الجهة من جهة أخرى، ثانية للقيام بتحقيق جنائي مفصل ومعمق من أجل الوصول إلى الحقيقة وذلك قبل العمد على إحالة المتهم على جلسات المحاكمة، إلا أنه لن يتأتى هذا إلا عن طريق تفعيل استقلالية قاضي التحقيق من أجل ضمان الحياد التام في التعامل مع الأطراف من أجل ترسيخ العدالة الجنائية.
فإذا كان المشرع المغربي راهن على ترسيخ مبادئ المحاكمة العادلة عن طريق وضع التحقيق الإعدادي بيد قاضي التحقيق من أجل تدعيم وترسيخ مبادئ المحاكمة العادلة المستندة بالأساس على قرينة البراءة متماشيا بذلك مع التطور الحقوقي الذي عرفه العالم واحتراما للاتفاقيات الدولية المنددة بكل الخروقات لحقوق الإنسان واستجابة للصيحات الفقهية المنددة للتجاوزات التي تقوم بها النيابة العامة من خلال السياسة الجنائية المتبعة من قبلها.
فإن هذا لن يتأتى إلا عن طريق تفعيل مؤسسة قاضي التحقيق، فما هي المهام المسندة لقاضي التحقيق من أجل النهوض بأعباء التحقيق الإعدادي لما يخدم العدالة الجنائية المعتمدة على براءة كأصل والسلطات المخولة له بشأن ذلك (ثانيا) وما هي الهيئة أو الجهة التي أوكل بها المشرع المغربي مهمة تعين قاضي التحقيق (أولا).
المطلب الأول: تعيين قاضي التحقيق
لقد عرفت مسطرة تعيين قضاة التحقيق تراجعا خطيرا أخل بكل مقومات العدالة الجنائية المبنية على مبدأ الفصل بين السلط والتأكيد وتأصيل مفهوم قرينة البراءة كأصل في الظنين.
فإذا كان قانون المسطرة الجنائية القديم ينص على أن قاضي التحقيق يعين في محكمة الاستئناف( ) لغاية النهوض بأعباء التحقيق الإعدادي بصفة أساسية لمدة ثلاث سنوات وذلك بقرار من وزير العدل، فإنه في المقابل وتماديا في تكريس السياسة الجنائية القائمة على إخلال بمبدأ الفصل بين السلط والمركزة على أساس هيمنة وزير العدل على المرحلة ما قبل المحاكمة بشقيها سواء أمام الضابطة القضائية –البحث التمهيدي- أو أمام قاضي التحقيق –التحقيق الإعدادي- فاستنادا إلى الفصل (6 و19 ض ح ن) وكذا الفصل 53 ف م ج أعطى الحق لوزير العدل في أن يصدر قرار إعفاء قاضي التحقيق من مهامه لكن بعد أن يحصل على رأي المكتب المجلس الأعلى للقضاء.
لكن الغريب في الأمر وبعد انتظار مرير ونضال فقهي وحقوقي وجمعوي طويل الذي ناهز قرابة نصف قرن من أجل تعديل قانون المسطرة الجنائية فقد جاءت بما لم يكن في الحسبان بحيث عمد المشرع بضرب عرض الحائط كل النضالات الفقهية الحقوقية والقانونية من أجل تكريس وتفعيل مبدأ الفصل بين السلط كحق ومبدأ دستوري قار.
جاءت المادة 52 من ق م ج العديد بأكثر تراجع حقوقي مخلة بذلك بمبدأ الفصل بين السلط( ).
فبالرجوع إلى المادة 52 ف م ج حيث نصت على أن هؤلاء يتم تعيينهم باقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية، وبناء على هذا الاقتراح يتولى وزير العدل عملية التسمية الرسمية لقاضي التحقيق وذلك لولاية قضائية مدتها ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار إداري لوزير العدل بناء على نفس الكيفيات والشروط الواردة في المادة أعلاه.
كما عمل أيضا على تحديد طريقة تعين قضاة التحقيق بمحكمة الاستئناف بحيث نص على أن هؤلاء يتم انتقائهم من ضمن المستشارين أو المكلفين بمهام المستشارين بها بنفس الإجراءات التي تم بها تعين قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية أي عن طريق وزير العدل، كما أجاز لهذا الأخير في المقابل كسلطة لتعين اتخاد قرار بوضع حد وإنهاء مهام قاضي التحقيق ومن نفس الشروط المسطرية –المادة 52 ف .م. ج-( ).
وما يميز هذه المسطرة، هي تلك الإرادة المتزايدة للمشرع في ضمان احكام والمسطرة نهائيا على هيئة التحقيق من طرف السلطة التنفيذية من جهة الممثلة في وزير العدل وأيضا من طرف سلطة الاتهام من جهة أخرى، علما وكما سبق الإشارة إليه في المبحث الأول على أن وزير العدل هو السلطة الرئيسية المباشرة للنيابة العامة طبقا لمقتضيات المادة 51 ف. م. ج. ( ).
فهذا الوضع الرذيل لا يتماشى مع دولة القرن الواحد والعشرين التي أخذت على عاتقها الالتزام بمفهوم الحرية والديموقراطية للجميع أمام القانون وأمام المجتمع عن طريق تخليق السياسة الجنائية لما هو متعارف عليه دوليا( ) في تأصيل مفهوم البراءة أمام القضاء الجنائي.
وهذا الوضع يترتب عنه وضع شاذ للغاية: سيطرة وزير العدل على أخطر جهازين يتحكمان في حرية الناس وأعراضهم وهما سلطتي الاتهام والمتابعة وسلطة التحقيق من جهة ثانية.
وكتحصيل حاصل لما خوله المشرع المغربي لوزير العدل من امتيازات على النيابة العامة الخاضعة لسلطته الرئيسية بحيث يمكنه من خلالها أي النيابة العامة التأثير على سير التحقيق لما يخدم مصالحه السياسية من جهة ومن أجل تفعيل مظاهر الهيمنة والسيطرة على سلطة التحقيق من خلال مسطرة اختيار القاضي الذي يتعين تكليفه بمسطرة التحقيق الإعدادي، فهذا الوضع المزري لا يعكس فقط عدم استقلالية سلطة التحقيق على جهاز النيابة العامة، ومن تم وزير العدل بل يعكس بؤس الوضعية القانونية لقاضي التحقيق( ) وهكذا نص المشرع من أجل ترجمة هذه النوايا والأهداف الغير المنطقة في المادة 90 ق.م.ج. «إذا تعدد قضاة التحقيق في محكمة واحدة فإن النيابة العامة تعين من يحقق في كل قضية على حدة» فهذا الفصل لا محل له من الإعراب في إطار التغني بفلسفة استقلالية قاضي التحقيق لما يخدم العدالة واحترام الحريات وترسيخ مبدأ البراءة كأصل.
فالمنطق الذي لا يتجادل فيه اثنان، وذلك على ضوء هذه الاعتبارات المشار إليها أعلاه، على أن قاضي التحقيق أصبح أكثر من أي وقت مضى تحت رحمة سلطة وزير العدل، وذلك على قرار الوضع البئيس لجهاز النيابة العامة، والذي يمكنه بناء عليه إعفاء قاضي التحقيق ووضع حد لمهامه في إطار سلطة التحقيق، إن لم يخضع لسلطة وتوجيه وزير العدل وما يخدم مصالحه السياسية فعلى الرغم ما جاء في ديباجة المسطرة الجنائية بحيث نصت على «أن قانون المسطرة الجنائية……يضمن الفصل بين السلطات المكلفة بممارسة الدعوة العمومية والتحقيق…»
فما يدعو للاستغراب والعجب أن نفس القانون ينص صراحة في المادة 90 ق م ج على أن قضاة النيابة هم من يتولى اختيار قاضي التحقيق الذي يجب تكليفه بقضية ما، ولربما أصيب واضعو مدونة قانون المسطرة الجنائية بداء النسيان وهم في إطار ديباجة الشعارات والمبادئ الكونية في الديباجة، ويتولون بعد ذلك إفراغها من مضمونها بل أكثر من ذلك الاتيان والتنصيص على مبادئ وأحكام قانونية تتعارض جملة وتفصيلا مع هذه الشعارات التي وضعت بها مقدمة أو ديباجة المسطرة الجنائية.
فإذا كانـت المادة 52 ق. م. ج. قياسا مع ما كان ينص عليه الفصل 53 ف م ج. القديم تشكل تراجعا معنويا على الأقل اعتبارا لكون هذه المادة الملغاة ضمن مسطرة الجنائية القديم كانت نسبيا تمثل إحدى الضمانات الموضوعية لقاضي التحقيق بحيث كانت تنص على ضرورة استشارة مكتب المجلس الأعلى رغم إيماننا العميق على أن هذه المسطرة ليست في نهاية المطاف إلا تحصيل حاصل أو مجرد تمويه لأن موقف هذا الأخير ليس له قوة قانونية خاضعة أمام القرار الإداري لوزير العدل.
وهذا ما جعل ببعض الباحثين المغاربة يطالبون اسناد مسألة التعين والإعفاء إلى جمعية قضاة المحاكم الابتدائية وللهيئة العامة لقضاة المحاكم الاستئناف، وذلك لما هو عليه الأمر بتعين قضاة الغرفة الجنحية نظرا لما تتميز به هذه الهيئات من استقلالية، كما أن هناك اتجاهات فقهية من يقترح وذلك تحقيقا للحياد والاستقلالية أكثر وتدعيما لهذه الحصانة المعنوية أن تعود سلطة التحقيق وإعفاء من مهام المجلس الدستوري( ).
فسواء أنيط اختصاص تعين قاضي التحقيق لهيئة أو جمعية القضاة المحكمة المحكمة الابتدائية أو للهيئة العامة للقضاة محكمة الاستئناف أو حتى لمجلس الأعلى للقضاء، فإن هذا قد يحد أو يخفف على العموم من التناقض الذي تتخبط فيه مسطرة الجنائية بين تدعيم هيمنة وسيطرة السلطة التنفيذية في شخص وزير العدل وبين التبرح بمفاهيم العدالة الجنائية القائمة على الحرية واحترام حقوق الإنسان وعلى اعتبار الفصل الأول من المسطرة الجنائية ينص على أن كل شخص يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي.
والملاحظ أن المشرع بسياسته القائمة وبفلسفته الرامية إلى عدم إيلاء أي اعتبار أو اهتمام يذكر وهو بصدد صياغة نصوص قانون المسطرة الجنائية للآراء والانتقادات الفقهية، بحيث تبنى سياسة اللامبالاة والاحتكار وصم الاذن وحافض تقريبا على نفس الوضع القائم سابقا.
فبالرجوع إلى مقتضيات المادة 83 ق م ج التي عملت على إيراد الحالات التي يشملها التحقيق الإعدادي سنلاحظ مسلسل من التراجعات المؤدية إلى تضيق الخناق على المجال الذي يعطيه التحقيق الإعدادي( ) وفقا لما كان منصوص عليه في ظهير 10 فبراير 1959 وكذا عدم الأخذ بعين الاعتبار لا نوعية ولا خطورة الفعل الجرمي وكذا مجمل التقسيمات التي تراد عليه عليها لم يكن له أي تأثير يذكر على اختيارات المشرع وبالتالي على مبدأ ضرورة إخضاعها بشكل إلزامي وإجباري للتحقيق الإعدادي.
فبالرجوع إلى مقتضيات المنظمة لمجال التحقيق الإعدادي على ضوء مقتضيات ظهير 10 فبراير 1959 يمكن لنا أن نستنتج حجم وهول التراجع على هذه الضمانات الهامة للغاية التي تعتبر أحد أهم الضمانات التي كان يتمتع بها المتهم في تدعيم الحكم ببراءته واحترام حريته وخاصة إذا تم النظر إليها على أساس أنها وسيلة يترتب عنها آليا عدم الاكتفاء بتحريات الضابط القضائية، وهو التسرع والسطحية في أغلب الأحيان وكانت أهمية التحقيق الإعدادي بالمقابل تتمثل أساسا في كونه تحقيقا معقولا للإظهار براءة المتهم.
فهذه الانتقادات الفقهية والقضائية الموجهة إلى مقتضيات الانتقالية في عمقه، ليس مجرد تغيرات أدبية أدت إلى تراجعات واختبارات معينة، بل تكشف عن السياسة القائمة والديكتاتورية لسياسة الدولة وتطورها في التعاطي والتعامل مع المواطن وبالتالي فإن الابقاء على هذا الوضع المشين لدولة الحق والقانون بموجب مسطرة التحقيق الإعدادي الجديد يشكل في عمقه استمرارية في اختيارات غير مبررة نحو تشديد والمزيد من الصرامة وإخضاع المحاكمات الجنائية لمسطرة سريعة، ليس من شأنها مطلقا كفالة الحد الأدنى من الضمانات وتحقيق وترجمة مبادئ المحاكمة العادلة القائمة على قرينة البراءة.
______________________________
– تتمثل في الاستنكار الشديد الذي يكنه المجتمع لجهاز النيابة العامة عن طريق تسميتها (بالغراق) لما تكنه من عداوة للمتهم.
– تفعيل مستجدات قانون المسطرة الجنائية وتنظيم حلقات تكوينية عن طريق توجيه 75 منشور إلى النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية.
– ادريس طارق السباعي: “قاضي التحقيق، ط.2، مطبعة الصومعة، ص10.
– المرحوم عبد الصمد الزعنوني: قضاء التحقيق في ضوء مشروع قانون المسطرة الجنائية” عرض تم تقديمه خلال اليومين الدراسيين حول مشروع قانون يتعلق بمدونة المسطرة الجنائية 14-15-16 يونيو 2001، ص2.
– محمود محمود مصطفى: “شرح قانون الإجراءات الجنائية”، ط. 4، 1956، مطبعة اتحاد الجامعات بالاسكندرية، ص231 و232.
– عبد السلام بنحدو: “الوجيز في شرح المسطرة الجنائية المغربية”، ط. 3، 1997، دار ليلى للطباعة والنشر، ص135 –136.
– عبد السلام بنحدو: “الوجير في شرح المسطرة الجنائية المغربية”، ط. 3، 1997، رقم 356/221. 34.
– انظر “ديباجة قانون المسطرة الجنائية” الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003.
-ذ. محمد أحداف: “شرح المسطرة الجنائية” ج.2، ط. 1، 2005، سجلماسة للطبع والنشر. مكناس، ص47 وما بعدها.
– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عام 1948.
– ذ. محمد احداف: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد”، ج. 1، ط. 2، 2005، سجلماسة للطبع والنشر مكناس.
– ذ. محمد احداف: “شرح المسطرة الجنائية”، ج. 2، ط. 1، 2005 سجلماسة للطبع والنشر. ص47 –48.
– المعطي الأيوبي وآخرون: “تعليق على النصوص المقترح تعديلها المتعلق بمشروع قانون المسطرة الجنائية الخاصة بمؤسسة قاضي التحقيق”، ندوة هيئة المحامين بالرباط –رسالة المحاماة عدد 18، 2002، ص57.
– ذ. محمد احداف: “شرح المسطرة الجنائية”، ج. 2، ط. 1، 2005. مطبعة سجلماسة للطبع والنشر مكناس، ص41-48.
يعترف لقاضي النيابة العامة بحق استئناف جميع الأوامر القضائية الصادرة عن قاضي التحقيق ما عدا تلك الخاصة بإجراء بإجراء خبرة وذلك حسب المادة 222 من قانون المسطرة الجنائية( ).
إن ما يهمنا من هذه المادة هو كون الأمر الصادر بالإفراج المؤقت من طرف قاضي التحقيق لا يسري إلا بموافقة النيابة العامة أو بانصرام أجل الاستئناف لهذا الأمر المادة “222 الفقرة 3″ حيث يتم الإبقاء على المتهم في حالة اعتقال إلى أن يتم البث في هذا الاستئناف (الفقرة الأخيرة) وهذا يجعلنا نتساءل عن أهمية تنصيص المشرع على عينية التحقيق بالنسبة للمتهم؟
حيث أنه وكما سبق الذكر فإن عينية التحقيق تخول لقاضي التحقيق أن يقوم بمتابعة أشخاص لم يتم التنصيص عليهم في ملتمس التحقيق أي أن المشرع خول لقاضي التحقيق سلطة المتابعة بناءا على هذا الأمر، ولكنه وبالمقابل ميز بين قوة حضور قاضي التحقيق بالنسبة لحالة الاتهام عنها في حالة التبرءة ولو كانت هذه التبرئة جزئية، حيث لا يستطيع قاضي التحقيق أن يقوم بالإفراج عن المتهم في هذه الحالة إلا بسلوك مسطرة معقدة أسهل ما فيها أن يتم موافقة النيابة العامة على هذا الإفراج وما يعنيه ذلك من ضرورة إبلاغها بقرار قاضي التحقيق وحصوله على الموافقة. فما معنى أن تكون لقاضي التحقيق سلطة واسعة في ملاحقة الأشخاص بناءا على ملتمس التحقيق ولا تكون له سلطة موازية وعلى نفس الأشخاص في الاتجاه العكسي (اتجاه إخلاء السبيل) هذا ينم على أن سياسة المشرع تتجه إلى زيادة عدد المتهمين وتوسيع قاعدتهم وإهدار حقوقهم في التمتع بالسراح إلى أن تتم إدانتهم وتجدر الإشارة إلى أنه غالبا ما يتم التذرع وراء حجة عدم وجود ضمانات لحضور المتهم أو الخوف من فراره والرد على هذه الحجج هو مضمون المادة 161 والتي نصت على وجود ضمانات لوضع المتهم تحت المراقبة القضائية حيث يمكن استبدال الأمر بالإيداع في السجن بالوضع تحت المراقبة القضائية لما يحققه من نتائج إيجابية مقارنة مع الأمر السابق.
المطلب الرابع: السهر على احترام إجراءات الحراسة النظرية وآجالها
من المتعارف عليه أن النيابة العامة تسير أعمال الشرطة القضائية والتي يدخل ضمن اختصاصها القيام بوضع المتهم تحت الحراسة النظرية، وقد نصت المادة 66 على أن هذا الوضع يكون لمدة معينة قابلة للتجديد وهذا ما يطرح بعض التساؤلات من هذه الناحية(أ) إضافة إلى الإشكاليات التي يطرحها هذا الوضع لكونه عملا ماسا بحقوق المتهم(ب) دون إغفال ضمانات المتهم وحقوقه أثناء هذا الوضع(ج).
الفقرة الأولى: مدة الوضع تحت الحراسة وتمديدها:
نصت المادة السابقة على أن مدة الوضع تحت الحراسة تختلف حسب نوع الجريمة وهي لا تخرج عن ثلاث حالات هي:
1- الجنايات والجنح في حالتهما العادية أو المتلبس بها: وتكون المدة 48 ساعة قابلة للتجديد لمدة 24 ساعة فقط، بعد إذن النيابة العامة.
2- الجرائم الماسة بأمن الدولة: وفيها تكون الحراسة لمدة 96 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة فقط بنفس المدة بعد إذن النيابة العامة.
3- جرائم الإرهاب: مدتها 96 ساعة قابلة للتجديد مرتين بنفس المدة، بعد إذن النيابة العامة.
إن الإشكاليات التي تطرحها الحراسة النظرية اعتمادا على مدتها وما يترتب عليه من نتائج تظهر من خلال المدة القصيرة لهذه الحراسة والتي تعني أن البحث لن يطول إلا بامتداد مع هذه المدة، ناهيك عن الإشكالية التي تطرحها إطالة مدة الحراسة من حيث تحكمها في حريات الأفراد، وهذا لا يعني أن الإشكالية معقدة بل إن حلها أسهل مما هو متوقع. فقد كان واجبا على المشرع الفصل بين مدة الوضع تحت الحراسة وزمن إجراء البحث وذلك لنخول لضابط الشرطة القضائية المدة الكافية لإجراء البحث وعدم إغفال أي إجراء يؤثر على مجريات البحث وبالتالي المحاكمة وذلك لكونه يتسابق مع الزمن الواجب عليه احترامه نظرا لوضعه المتهم تحت الحراسة النظرية حيث يمكنه (المشرع) أن يوفق بين مصلحة المتهم من جهتين هما عدم وضعه تحت الحراسة وكذلك إجراء البحث في مدة كافية لإظهار كل ما يتعلق بالواقعة وذلك من خلال التنصيص على شروط لوضع المتهم تحت الحراسة، فما هي هذه الشروط؟ وكيف يمكن أن تخدم مصلحة المتهم؟ ولا ننسى أن تحديد مدة الوضع تحت الحراسة وتمديدها تطرح إشكال متى يمكن للمتهم أن يتصل بمحاميه إذا كان لا يشعر بانتهاء مدة الوضع تحت الحراسة وابتداء المدة الجديدة بعد التمديد.
الفقرة الثانية: الوضع تحت الحراسة النظرية كتدبير استثنائي:
أتاح المشرع لضابط الشرطة القضائية إمكانية وضع المتهم تحت الحراسة النظرية، لكنه اشترط لإمكانية ذلك بعض الشروط هي:
1- أن تتطلب ذلك ضرورة البحث:
لقد اشترط المشرع على الشرطة القضائية ألا تلجأ إلى تدبير الوضع تحت الحراسة النظرية إلا إذا كانت ضرورة البحث تقتضي ذلك ولكنها بالمقابل لم تذكر معنى هذه الضرورة مما أدى إلى توسع أفراد الشرطة القضائية في الأخذ بمفهوم هذه المادة ومارسوها حسب مزاجيتهم تحت تعليل أن ضرورة البحث تقتضي ذلك.
2- أن يكون معاقبا على الجريمة المرتكبة بالحبس:
إن هذا الشرط يعتبر منطقيا جدا، فكيف يمكن أن نحبس متهما من أجل إجراء بحث في حين أن هذه الجريمة لا ترتب أي عقوبة حبسية؟
ولكن رغم أن هذه الحالة تعتبر كضمانة للمتهم إلا أنها تظهر لنا تميز المشرع بين حالتين يتم فيهما المساس الجلي بقرينة البراءة.
فإن كان أساس عدم إمكانية الوضع تحت الحراسة النظرية ينبني على اعتبار أن العقوبة المحددة لتلك الجريمة لا تصل إلى عقوبة الحبس فهذا يعني صراحة بأن المشرع أخذ بأن المتهم هو الفاعل الحقيقي وليس مشتبه به يضعه تحت الحراسة من أجل ضرورة البحث وأن المشرع ضحى بحق الضحية في حالة ارتكاب فعل جرمي لا يرتب إلا غرامة (مع الإشارة إلى حق المطالب بالحق المدني في التعويض عن طريق الدعوى المدنية التابعة).
فقد ضحى المشرع بذلك الحق لكنه لم يسمح بإمكانية الوضع تحت الحراسة في هذا النوع من الجرائم وذلك لإمكانية فرار ذلك المتهم وضياع حق الضحية. إن هذا يوضح لنا جليا بأن المشرع غايته من إقرار هذا الشرط ليس التأكيد على أن الوضع تحت الحراسة النظرية يعتبر وضعا استثنائيا كما يشير إلى ذلك بعض الفقه( ) وإنما أصبح هو المبدأ، وما يؤكد هذا القول هو أن المشرع لم يرتب أي جزاء على خرق هذه الشروط من طرف ضابط الشرطة القضائية سوى تعريضه لعقوبات تأديبية إذا ما كان هذا الخرق متعمدا وتعسفي (أو تحكمي كما يطلق عليه البعض) ولكن هذا لا يعني أن المشرع لم يعطي للمتهم ضمانات خلال هذا الوضع والتي تتمثل فيما يلي:
الفقرة الثالثة: ضمانات المتهم أثناء الوضع تحت الحراسة النظرية:
نص المشرع على ضرورة احترام بعض الإجراءات والتي تشكل ضمانات للمتهم خلال مدة وضعه تحت الحراسة النظرية وهذه الضمانات هي:
1- إشعار عائلة المتهم:
يعاب على هذه الضمانة كونها لم تحدد الأشخاص الواجب إشعارهم، زيادة إلى عدم وجود جزاء للإخلال بهذا الإجراء والذي يؤدي إلى عدم احترامه وبالتالي إفراغ هذه الضمانة من المحتوى واعتبارها في حكم المنعدمة اعتبارا لكون هذا الإجراء إداري في نظر الفقه والقضاء لا يرتبون على مخالفته بطلان الإجراءات.
2-الاتصال بمحام:
وهذا الاتصال يطرح إشكالية إثبات إبلاغ ضابط الشرطة القضائية للمتهم في حقه بتعيين محام وكذلك إشكالية أخرى تتمثل في أن هذا الاتصال لا يتم إلا بعد تمديد مدة الوضع تحت الحراسة النظرية.
3-رقابة النيابة العامة لإجراء الوضع تحت الحراسة:
تمارس النيابة العامة بوصفها مسيرا لأعمال الشرطة القضائية رقابة أعمال هذه الأخيرة، ومن ضمن الأعمال التي تخضع لهذه الرقابة الوضع تحت الحراسة وهذه الرقابة تكون على مرحلتين:
*رقابة سابقة على الوضع تحت الحراسة النظرية.
وتتمثل في ضرورة حصول الشرطة القضائية على إذن مسبق من النيابة العامة قبل لجوئها إلى الوضع تحت الحراسة النظرية، إلا أن هذا الإذن يشترط فقط في حالة الجرائم المرتكبة في الأحوال العامة، أما الجرائم المرتكبة في حالة تلبس فقد منح المشرع الشرطة القضائية سلطة القيام بهذا الإجراء دون حاجة إلى الحصول على إذن مسبق من النيابة العامة ولا نحتاج إلى التذكير بكيفية توسيع المشرع لقاعدة الجرائم المتلبس بها من خلال إدراج الحالات التي اصطلح عليها الفقه بالتلبس الافتراضي.
*رقابة لاحقة للوضع تحت الحراسة النظرية:
أوجب المشرع على النيابة العامة القيام بمراقبة الوضع تحت الحراسة من خلال المادة 66( ) وذلك بالكيفيات التالية:
– يقوم وكيل الملك بزيارة واحدة في الأسبوع على الأقل للأماكن التي يتم فيها الوضع تحت الحراسة مع إمكانية قيامه بزيارات متعددة وضرورة قيامه بمحضر موقع عند كل زيارة.
– يوقع وكيل الملك على السجل المرقم الصفحات والذي يوجد في كل المحلات التي يوضع فيها الأشخاص تحت الحراسة النظرية ويكون هذا التوقيع مرة في كل شهر على الأقل.
– يمكن للنيابة العامة الحد من الوضع تحت الحراسة النظرية في أي وقت شاءت.
ورغم ما سبق ذكره من الضمانات فإن هذا الوضع يعتبر غير منطقي من الناحية القانونية وذلك أنه كيف يمكن أن تتم المراقبة من نفس الجهاز الذي يقوم بالعمل؟ فالمتعارف عليه والذي يحتمه المنطق القانوني أن سلطة الرقابة يجب أن تكون منفصلة عن سلطة المتابعة، حيث أن النيابة العامة هي المسؤولة وفي نهاية المطاف عن أعمال الشرطة القضائية بصفتها مسيرة لها فكيف يمكن أن نعتبر أن هذه السلطة والتي تتابع المتهم تطمح إلى المحافظة على حقوق وضمانات المتهم وهي من قامت بوضعه أصلا. لقد كان جديرا بالمشرع أن يوكل مهمة رقابة الوضع تحت الحراسة النظرية وغيرها من الإجراءات ذات الطابع القسري وكضمانة للمتهم تحت سلطة جهاز محايد ومتخصص، مع الإشارة إلى ضرورة الحفاظ على استقلال القضاء وقضاة النيابة العامة بشكل خاص، بأن يكون هذا الجهاز غير ذي سلطة على قضاة النيابة العامة حيث يمكن أن يثير مسؤولية النيابة العامة في حالة خرقها للقانون ويسائلها أمام القضاء دون أن يكون لهم حق إيقاع عقوبات أو اتخاذ أي إجراءات كيفما كان نوعها إلا تلك التي تثير مسؤولية جهاز النيابة العامة.
المطلب الخامس: اقتناع النيابة العامة وملائمة المتابعة
يأتي اقتناع النيابة العامة بكون المشتبه به (المتهم) هو مرتكب الجريمة في مرتبة تفصل بين مرحلتين، مرحلة ما قبل المحاكمة (بحث تمهيدي وتحقيق إعدادي) ومرحلة المحاكمة، فالنيابة العامة لها كامل الصلاحية وبناءا على ما يصل إلى علمها من وقائع على جريمة معينة من خلال البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي أن تتخذ أحد القرارين التاليين واللذان يؤديان إلى انتهاء مرحلة ما قبل المحاكمة وهما:
الفقرة الأولى: قرار حفظ الملف
تقوم النيابة العامة باستخدام حقها في حفظ الملف بناءا على المادة 49 في فقرتها ما قبل الأخيرة، حيث أشار المشرع أن للنيابة العامة الحق في حفظ الملف ولم يحدد إلا أسبابا قليلة فسرت على أنها وردت على سبيل المثال لا الحصر، وهذا يعني أن سلطة النيابة العامة في هذا المجال تعتبر سلطة مطلقة ويعزو واضعو المدونة هذه السلطة إلى كون النيابة العامة وفي بعض الأحوال لعدم وجود دليل قوي أو في حالة عدم معرفة الجاني تقوم بحفظ الملف لتخفف عن المحكمة عبئ النظر في قضايا لا طائل منها، وهذا التفسير منطقي إلى حد كبير، لكن ما نتسائل عنه نحن هو مدى التزام النيابة العامة بأسباب كالأسباب المذكورة لحفظ الملف؟ ألا يمكن أن تستغل النيابة العامة هذا الحق أو هذه السلطة لخدمة مصالحها خاصة إذا ما عرفنا أن جهاز النيابة العامة مترابط كما سبق الذكر.
الفقرة الثانية: قرار إحالة الملف على جلسة الحكم
يعتبر هذا القرار بمثابة حكم بالإدانة من طرف النيابة العامة، حيث أنها ومن خلال إحالة الملف إلى قضاء الحكم ترشح ذلك المتهم باعتباره مرتكبا للفعل الجرمي، وهذا القرار يعتبر الوجه الثاني لقرار حفظ الملف وفي الحالات التي لا يحفظ فيها الملف تتم إحالته على قضاء الحكم وهذا يعني بالضرورة أن زيادة عدد قرارات حفظ الملف تؤدي إلى تقليص عدد المتابعات والعكس صحيح. وما يهمنا في هذه العلاقة هو أن المشرع لم يحدد أسباب قاطعة لحفظ الملف وهذا يعني أنه أتاح المجال للنيابة العامة بإحالة أعداد كبيرة من الملفات إلى قضاء الحكم رغم أنه وفي بعض الحالات لا توجد علاقة متينة بين الفعل الإجرامي والمشتبه به أو المتهم الذي تمت إحالة ملفه على الجلسة وما يترتب على ذلك من مساس بقرينة البراءة، وقد ذهب المشرع الفرنسي إلى ضرورة وجود علاقة بين الفعل الإجرامي والمشتبه به حتى يمكن متابعته وتحريك الدعوى العمومية في مواجهته ومن تم ممارستها، وهذا ما يدل على حماية المشرع الفرنسي للمتهم وتمتيعه بقرينة البراءة.
__________________________
– “يحق للنيابة العامة أن تستأنف لدى الغرفة الجنحية كل أمر قضائي يصدره قاضي التحقيق باستثناء الأوامر الصادرة بإجراء خبره طبقا لمقتضيات المادة 196″. المسطرة الجنائية المغربية، المادة 222.
– محمد عياط: م، س، ص103.
– المسطرة الجنائية المغربية “الفقرات السادسة، الحادية عشر، الثانية عشر، الثالثة عشر، الرابعة عشر والأخيرة”.
الفصل الثاني : القضاء الجالس
المبحث الأول: مؤسسة قاضي التحقيق
نظرا للمفهوم الضيق والخطير الذي تعتمد عليه النيابة العامة ومصالحها لمفهوم قرينة البراءة كأصل وقيمة دستورية كبيرة، وكمفهوم متفق عليه دوليا، واعتبار لتأججات الفقهية والاجتماعية حول الموضوع( ) ووعيا من المشرع بخطورة هذا الجهاز الذي يمثل اليد الغاشمة لمقتضيات السياسة الجنائية( ) عمد المشرع إلى الحد وإضعاف من صلاحيات هذا الجهاز عن طريق جعل التحقيق الإعدادي في الجنايات وبعض الجنح من اختصاص قاضي التحقيق لما تمثله من خطورة على المتهم، وتحقيق لمفهوم العدالة الجنائية، والسير على التطور الذي يعرفه العالم في تحقيق حقوق الإنسان.
بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية وبمجرد ذكر التحقيق الإعدادي يبادر للذهن مباشرة قاضي التحقيق، وهذا يعني أن هناك علاقة وثيقة ومباشرة بين التحقيق الإعدادي وقاضي التحقيق ولا غرابة في ذلك.
فقاضي التحقيق هي الجهة الأم والأصلية التي أوكل إليها المشرع مهمة إنجاز التحقيق الإعدادي والقيام بمهامه وأعبائه.
ويعتبر قاضي التحقيق من القضاة الجالسين وهو الساهر الأول على إنجاز التحقيق الإعدادي بحيث قال فيه الأستاذ بير دوفي المحامي العام بمحكمة الاستئناف بالرباط في ندوة وزارة العدل المنعقدة بتاريخ 20 أبريل 1959 بأن «هذا الرجل الذي يملك سلطات واسعة ويتصرف في حرية المواطنين وشرفهم يباشر مهمته ضمن شبكة القوانين العسيرة حيث ينبغي له أن يستعمل عمله وخبرته، لكن في نهاية الأمر إنما هي صفاته الأخلاقية وضميره وفضائله التي تكسب مهمته عظمتها الحقيقة»( ).
ويعتبر إبقاء المشرع بل وتطوير هذه المؤسسة( ) من المكتسبات المهمة التي رسختها مدونة مسطرة الجنائية الجديدة لما توفره من ضمانات قانونية للمتهم والمجتمع على حد سواء، مما يتعين عليها الوصول إلى حقيقة في مجال لا يخلو من تعقيد واستنكار للخروقات التي تقوم بها النيابة العامة.
وبالرجوع إلى المادة 52 من ق م ج نستشف أن المشرع المغربي تبنى ثنائية التحقيق وذلك لجعل التحقيق على مستوى المحاكم الابتدائية بالإضافة إلى تواجده بمحاكم الاستئناف دعامة لتحقيق العدالة الجنائية وإصلاح مفهوم البراءة لدى النيابة العامة من جهة وأسوة ببعض التشريعات المقارنة كالتشريع المصري وذلك من خلال المادة 64 من قانون الإجراءات الجنائية المصرية التي نصت على أنه «إذا أرادت النيابة العامة في مواد الجنايات والجنح أن تحقيق الدعوى بمعرفة قاضي التحقيق أكثر ملاءمة بالنظر إلى ظروفها الخاصة بأن لها في أية حالة كانت عليها الدعوى أن تخابر رئيس المحكمة الابتدائية وهو يندب أحد قضاة المحكمة لمباشرة هذا التحقيق”.
ويجوز للمتهم أو للمدعى بالحقوق المدنية أن يطلب من رئيس المحكمة الابتدائية إصدار قرار بهذا الندب ويصدر رئيس المحكمة هذا القرار إذا تحققت الأسباب المبينة بالفقرة السابقة بعد سماع أقوال النيابة العامة ويكون قراره غير قابل للطعن وتستمر النيابة العامة في التحقيق حتى يباشرها القاضي المندوب في حالة صدور قرار بذلك( ).
ومن الأسباب الرئيسية التي دفعت بالمشرع المغربي إلى إعادة النظر في تنظيم وتقسيم مؤسسة قاضي التحقيق الانتقادات الخطيرة التي وجهت للنيابة العامة في تحديدها للسياسة الجنائية من جهة والتحول والتطور العميق الذي شهده المغرب خلال السنوات الأخيرة من أجل إصلاح السياسة الجنائية لما يخدم حقوق الإنسان وحفظ كرامة المتهم أثناء التحقيق الإعدادي عن طريق توفر كل الضمانات القانونية في هذه المرحلة وتركيز سيادة دولة الحق والقانون وكذا نتيجة لدخوله عتبة القرن الواحد والعشرين الذي تكتسحه عولمة الاقتصاد وعالمية القانون الجنائي.
وقد أكد هذا التوجه المغفور له صاحب الجلالة الحسن الثاني عند استقباله لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 24 أبريل 1995 وذلك بقوله «إن المغرب إذا أراد أن ينفتح على العالم يجب أن يكون كذلك قضاؤه متفتحا وفي مستوى قضاء العالم لأنه لا يمكن ذلك الحال الأجنبي عارفا أنه في مأمن الشطط وسوء الفهم، فالقضاء اليوم لم يصبح فقط أساسا لطمأنينة الرعية والمجتمع بل أصبح ضروريا للنماء».
إلا أنه إذا كان المشرع قد راهن على مسطرة التحقيق الإعدادي عن طريق توفير كل الضمانات التي انتهكت أمام النيابة العامة، وكانت موضوع السخط داخل الفقه، كعدم التسرع بإحالة المتهم على جلسات الحكم والمحاكمة على ما تم تضمينه في محاضر الضابطة القضائية والله وحده يعلم كيف وبأي وسيلة وبأية نية ضمن من طرف الضابطة القضائية( ). ولا يسعنا إلا التنويه باختيارات المشرع بالعودة إلى الوضع السابق عن ظهير الإجراءات الانتقالية لسنة 1974 وذلك من خلال النص على مبدأ ثنائية التحقيق على مستوى المحاكم الابتدائية وكدا محاكم الاستئناف كإجراء مسطري على قدر كبير من الأهمية يسبق إجراء إحالة الملف على هيئة الحكم.
وخاصة التأكيد على مبدأ محاكمة المتهم بناء على تحقيقات معمقة وذلك عوض محاكمة بناء على محاضر الشرطة القضائية المنافية للعدالة الجنائية خاصة آجال الوضع تحت الحراسة النظرية والتي لا تسمح بكل وضوح بسبب الضغوط هذه الآجال من جهة وقلة خبرة هذه الجهة من جهة أخرى، ثانية للقيام بتحقيق جنائي مفصل ومعمق من أجل الوصول إلى الحقيقة وذلك قبل العمد على إحالة المتهم على جلسات المحاكمة، إلا أنه لن يتأتى هذا إلا عن طريق تفعيل استقلالية قاضي التحقيق من أجل ضمان الحياد التام في التعامل مع الأطراف من أجل ترسيخ العدالة الجنائية.
فإذا كان المشرع المغربي راهن على ترسيخ مبادئ المحاكمة العادلة عن طريق وضع التحقيق الإعدادي بيد قاضي التحقيق من أجل تدعيم وترسيخ مبادئ المحاكمة العادلة المستندة بالأساس على قرينة البراءة متماشيا بذلك مع التطور الحقوقي الذي عرفه العالم واحتراما للاتفاقيات الدولية المنددة بكل الخروقات لحقوق الإنسان واستجابة للصيحات الفقهية المنددة للتجاوزات التي تقوم بها النيابة العامة من خلال السياسة الجنائية المتبعة من قبلها.
فإن هذا لن يتأتى إلا عن طريق تفعيل مؤسسة قاضي التحقيق، فما هي المهام المسندة لقاضي التحقيق من أجل النهوض بأعباء التحقيق الإعدادي لما يخدم العدالة الجنائية المعتمدة على براءة كأصل والسلطات المخولة له بشأن ذلك (ثانيا) وما هي الهيئة أو الجهة التي أوكل بها المشرع المغربي مهمة تعين قاضي التحقيق (أولا).
المطلب الأول: تعيين قاضي التحقيق
لقد عرفت مسطرة تعيين قضاة التحقيق تراجعا خطيرا أخل بكل مقومات العدالة الجنائية المبنية على مبدأ الفصل بين السلط والتأكيد وتأصيل مفهوم قرينة البراءة كأصل في الظنين.
فإذا كان قانون المسطرة الجنائية القديم ينص على أن قاضي التحقيق يعين في محكمة الاستئناف( ) لغاية النهوض بأعباء التحقيق الإعدادي بصفة أساسية لمدة ثلاث سنوات وذلك بقرار من وزير العدل، فإنه في المقابل وتماديا في تكريس السياسة الجنائية القائمة على إخلال بمبدأ الفصل بين السلط والمركزة على أساس هيمنة وزير العدل على المرحلة ما قبل المحاكمة بشقيها سواء أمام الضابطة القضائية –البحث التمهيدي- أو أمام قاضي التحقيق –التحقيق الإعدادي- فاستنادا إلى الفصل (6 و19 ض ح ن) وكذا الفصل 53 ف م ج أعطى الحق لوزير العدل في أن يصدر قرار إعفاء قاضي التحقيق من مهامه لكن بعد أن يحصل على رأي المكتب المجلس الأعلى للقضاء.
لكن الغريب في الأمر وبعد انتظار مرير ونضال فقهي وحقوقي وجمعوي طويل الذي ناهز قرابة نصف قرن من أجل تعديل قانون المسطرة الجنائية فقد جاءت بما لم يكن في الحسبان بحيث عمد المشرع بضرب عرض الحائط كل النضالات الفقهية الحقوقية والقانونية من أجل تكريس وتفعيل مبدأ الفصل بين السلط كحق ومبدأ دستوري قار.
جاءت المادة 52 من ق م ج العديد بأكثر تراجع حقوقي مخلة بذلك بمبدأ الفصل بين السلط( ).
فبالرجوع إلى المادة 52 ف م ج حيث نصت على أن هؤلاء يتم تعيينهم باقتراح من رئيس المحكمة الابتدائية، وبناء على هذا الاقتراح يتولى وزير العدل عملية التسمية الرسمية لقاضي التحقيق وذلك لولاية قضائية مدتها ثلاث سنوات قابلة للتجديد بقرار إداري لوزير العدل بناء على نفس الكيفيات والشروط الواردة في المادة أعلاه.
كما عمل أيضا على تحديد طريقة تعين قضاة التحقيق بمحكمة الاستئناف بحيث نص على أن هؤلاء يتم انتقائهم من ضمن المستشارين أو المكلفين بمهام المستشارين بها بنفس الإجراءات التي تم بها تعين قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية أي عن طريق وزير العدل، كما أجاز لهذا الأخير في المقابل كسلطة لتعين اتخاد قرار بوضع حد وإنهاء مهام قاضي التحقيق ومن نفس الشروط المسطرية –المادة 52 ف .م. ج-( ).
وما يميز هذه المسطرة، هي تلك الإرادة المتزايدة للمشرع في ضمان احكام والمسطرة نهائيا على هيئة التحقيق من طرف السلطة التنفيذية من جهة الممثلة في وزير العدل وأيضا من طرف سلطة الاتهام من جهة أخرى، علما وكما سبق الإشارة إليه في المبحث الأول على أن وزير العدل هو السلطة الرئيسية المباشرة للنيابة العامة طبقا لمقتضيات المادة 51 ف. م. ج. ( ).
فهذا الوضع الرذيل لا يتماشى مع دولة القرن الواحد والعشرين التي أخذت على عاتقها الالتزام بمفهوم الحرية والديموقراطية للجميع أمام القانون وأمام المجتمع عن طريق تخليق السياسة الجنائية لما هو متعارف عليه دوليا( ) في تأصيل مفهوم البراءة أمام القضاء الجنائي.
وهذا الوضع يترتب عنه وضع شاذ للغاية: سيطرة وزير العدل على أخطر جهازين يتحكمان في حرية الناس وأعراضهم وهما سلطتي الاتهام والمتابعة وسلطة التحقيق من جهة ثانية.
وكتحصيل حاصل لما خوله المشرع المغربي لوزير العدل من امتيازات على النيابة العامة الخاضعة لسلطته الرئيسية بحيث يمكنه من خلالها أي النيابة العامة التأثير على سير التحقيق لما يخدم مصالحه السياسية من جهة ومن أجل تفعيل مظاهر الهيمنة والسيطرة على سلطة التحقيق من خلال مسطرة اختيار القاضي الذي يتعين تكليفه بمسطرة التحقيق الإعدادي، فهذا الوضع المزري لا يعكس فقط عدم استقلالية سلطة التحقيق على جهاز النيابة العامة، ومن تم وزير العدل بل يعكس بؤس الوضعية القانونية لقاضي التحقيق( ) وهكذا نص المشرع من أجل ترجمة هذه النوايا والأهداف الغير المنطقة في المادة 90 ق.م.ج. «إذا تعدد قضاة التحقيق في محكمة واحدة فإن النيابة العامة تعين من يحقق في كل قضية على حدة» فهذا الفصل لا محل له من الإعراب في إطار التغني بفلسفة استقلالية قاضي التحقيق لما يخدم العدالة واحترام الحريات وترسيخ مبدأ البراءة كأصل.
فالمنطق الذي لا يتجادل فيه اثنان، وذلك على ضوء هذه الاعتبارات المشار إليها أعلاه، على أن قاضي التحقيق أصبح أكثر من أي وقت مضى تحت رحمة سلطة وزير العدل، وذلك على قرار الوضع البئيس لجهاز النيابة العامة، والذي يمكنه بناء عليه إعفاء قاضي التحقيق ووضع حد لمهامه في إطار سلطة التحقيق، إن لم يخضع لسلطة وتوجيه وزير العدل وما يخدم مصالحه السياسية فعلى الرغم ما جاء في ديباجة المسطرة الجنائية بحيث نصت على «أن قانون المسطرة الجنائية……يضمن الفصل بين السلطات المكلفة بممارسة الدعوة العمومية والتحقيق…»
فما يدعو للاستغراب والعجب أن نفس القانون ينص صراحة في المادة 90 ق م ج على أن قضاة النيابة هم من يتولى اختيار قاضي التحقيق الذي يجب تكليفه بقضية ما، ولربما أصيب واضعو مدونة قانون المسطرة الجنائية بداء النسيان وهم في إطار ديباجة الشعارات والمبادئ الكونية في الديباجة، ويتولون بعد ذلك إفراغها من مضمونها بل أكثر من ذلك الاتيان والتنصيص على مبادئ وأحكام قانونية تتعارض جملة وتفصيلا مع هذه الشعارات التي وضعت بها مقدمة أو ديباجة المسطرة الجنائية.
فإذا كانـت المادة 52 ق. م. ج. قياسا مع ما كان ينص عليه الفصل 53 ف م ج. القديم تشكل تراجعا معنويا على الأقل اعتبارا لكون هذه المادة الملغاة ضمن مسطرة الجنائية القديم كانت نسبيا تمثل إحدى الضمانات الموضوعية لقاضي التحقيق بحيث كانت تنص على ضرورة استشارة مكتب المجلس الأعلى رغم إيماننا العميق على أن هذه المسطرة ليست في نهاية المطاف إلا تحصيل حاصل أو مجرد تمويه لأن موقف هذا الأخير ليس له قوة قانونية خاضعة أمام القرار الإداري لوزير العدل.
وهذا ما جعل ببعض الباحثين المغاربة يطالبون اسناد مسألة التعين والإعفاء إلى جمعية قضاة المحاكم الابتدائية وللهيئة العامة لقضاة المحاكم الاستئناف، وذلك لما هو عليه الأمر بتعين قضاة الغرفة الجنحية نظرا لما تتميز به هذه الهيئات من استقلالية، كما أن هناك اتجاهات فقهية من يقترح وذلك تحقيقا للحياد والاستقلالية أكثر وتدعيما لهذه الحصانة المعنوية أن تعود سلطة التحقيق وإعفاء من مهام المجلس الدستوري( ).
فسواء أنيط اختصاص تعين قاضي التحقيق لهيئة أو جمعية القضاة المحكمة المحكمة الابتدائية أو للهيئة العامة للقضاة محكمة الاستئناف أو حتى لمجلس الأعلى للقضاء، فإن هذا قد يحد أو يخفف على العموم من التناقض الذي تتخبط فيه مسطرة الجنائية بين تدعيم هيمنة وسيطرة السلطة التنفيذية في شخص وزير العدل وبين التبرح بمفاهيم العدالة الجنائية القائمة على الحرية واحترام حقوق الإنسان وعلى اعتبار الفصل الأول من المسطرة الجنائية ينص على أن كل شخص يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بحكم قضائي.
والملاحظ أن المشرع بسياسته القائمة وبفلسفته الرامية إلى عدم إيلاء أي اعتبار أو اهتمام يذكر وهو بصدد صياغة نصوص قانون المسطرة الجنائية للآراء والانتقادات الفقهية، بحيث تبنى سياسة اللامبالاة والاحتكار وصم الاذن وحافض تقريبا على نفس الوضع القائم سابقا.
فبالرجوع إلى مقتضيات المادة 83 ق م ج التي عملت على إيراد الحالات التي يشملها التحقيق الإعدادي سنلاحظ مسلسل من التراجعات المؤدية إلى تضيق الخناق على المجال الذي يعطيه التحقيق الإعدادي( ) وفقا لما كان منصوص عليه في ظهير 10 فبراير 1959 وكذا عدم الأخذ بعين الاعتبار لا نوعية ولا خطورة الفعل الجرمي وكذا مجمل التقسيمات التي تراد عليه عليها لم يكن له أي تأثير يذكر على اختيارات المشرع وبالتالي على مبدأ ضرورة إخضاعها بشكل إلزامي وإجباري للتحقيق الإعدادي.
فبالرجوع إلى مقتضيات المنظمة لمجال التحقيق الإعدادي على ضوء مقتضيات ظهير 10 فبراير 1959 يمكن لنا أن نستنتج حجم وهول التراجع على هذه الضمانات الهامة للغاية التي تعتبر أحد أهم الضمانات التي كان يتمتع بها المتهم في تدعيم الحكم ببراءته واحترام حريته وخاصة إذا تم النظر إليها على أساس أنها وسيلة يترتب عنها آليا عدم الاكتفاء بتحريات الضابط القضائية، وهو التسرع والسطحية في أغلب الأحيان وكانت أهمية التحقيق الإعدادي بالمقابل تتمثل أساسا في كونه تحقيقا معقولا للإظهار براءة المتهم.
فهذه الانتقادات الفقهية والقضائية الموجهة إلى مقتضيات الانتقالية في عمقه، ليس مجرد تغيرات أدبية أدت إلى تراجعات واختبارات معينة، بل تكشف عن السياسة القائمة والديكتاتورية لسياسة الدولة وتطورها في التعاطي والتعامل مع المواطن وبالتالي فإن الابقاء على هذا الوضع المشين لدولة الحق والقانون بموجب مسطرة التحقيق الإعدادي الجديد يشكل في عمقه استمرارية في اختيارات غير مبررة نحو تشديد والمزيد من الصرامة وإخضاع المحاكمات الجنائية لمسطرة سريعة، ليس من شأنها مطلقا كفالة الحد الأدنى من الضمانات وتحقيق وترجمة مبادئ المحاكمة العادلة القائمة على قرينة البراءة.
______________________________
– تتمثل في الاستنكار الشديد الذي يكنه المجتمع لجهاز النيابة العامة عن طريق تسميتها (بالغراق) لما تكنه من عداوة للمتهم.
– تفعيل مستجدات قانون المسطرة الجنائية وتنظيم حلقات تكوينية عن طريق توجيه 75 منشور إلى النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية.
– ادريس طارق السباعي: “قاضي التحقيق، ط.2، مطبعة الصومعة، ص10.
– المرحوم عبد الصمد الزعنوني: قضاء التحقيق في ضوء مشروع قانون المسطرة الجنائية” عرض تم تقديمه خلال اليومين الدراسيين حول مشروع قانون يتعلق بمدونة المسطرة الجنائية 14-15-16 يونيو 2001، ص2.
– محمود محمود مصطفى: “شرح قانون الإجراءات الجنائية”، ط. 4، 1956، مطبعة اتحاد الجامعات بالاسكندرية، ص231 و232.
– عبد السلام بنحدو: “الوجيز في شرح المسطرة الجنائية المغربية”، ط. 3، 1997، دار ليلى للطباعة والنشر، ص135 –136.
– عبد السلام بنحدو: “الوجير في شرح المسطرة الجنائية المغربية”، ط. 3، 1997، رقم 356/221. 34.
– انظر “ديباجة قانون المسطرة الجنائية” الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003.
-ذ. محمد أحداف: “شرح المسطرة الجنائية” ج.2، ط. 1، 2005، سجلماسة للطبع والنشر. مكناس، ص47 وما بعدها.
– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عام 1948.
– ذ. محمد احداف: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد”، ج. 1، ط. 2، 2005، سجلماسة للطبع والنشر مكناس.
– ذ. محمد احداف: “شرح المسطرة الجنائية”، ج. 2، ط. 1، 2005 سجلماسة للطبع والنشر. ص47 –48.
– المعطي الأيوبي وآخرون: “تعليق على النصوص المقترح تعديلها المتعلق بمشروع قانون المسطرة الجنائية الخاصة بمؤسسة قاضي التحقيق”، ندوة هيئة المحامين بالرباط –رسالة المحاماة عدد 18، 2002، ص57.
– ذ. محمد احداف: “شرح المسطرة الجنائية”، ج. 2، ط. 1، 2005. مطبعة سجلماسة للطبع والنشر مكناس، ص41-48.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire