المطلب الثاني : مجال التحقيق الإعدادي وسلطات قاضي التحقيق
الفقرة الأولى: مجال التحقيق الإعدادي
إن التحقيق الإعدادي مرحلة من مراحل القضية الجنائية تتوسط البحث التمهيدي الذي تباشره الشرطة القضائية والتحقيق النهائي الذي تباشره المحكمة في الجلسة( ) وحسب رأي الفقه والقضاء تعد هذه المرحلة دعامة أساسية لحقوق الإنسان وركيزة مهمة وأساسية في تحقيق العدالة الجنائية القائمة على قرينة البراءة.
والمناوئة لكل الانتقادات الموجهة للنيابة العامة، ويعد التحقيق الإعدادي كذلك مجموعة من التحريات تستهدف استكمال المعلومات وجمع الحجج التي تكون في صالح المتابع أو ضده من طرف سلطة قضائية مختصة يحق لها في نهاية الأمر أن تقرر ما إذا كان مناسبا أو غير مناسب إحالة القضية على المحكمة.
وعليه فإن قاضي التحقيق قد أسندت إليه مهمة مزدوجة تتمثل من جهة أولى ي جمع الأدلة المتعلق بالجريمة التي توبع من أجلها الضنين ومن جهة ثانية في تقدير قيمة تلك الأدلة لمعرفة ما إذا كانت كافية أو غير كافية للاستمرار في المتابعة( ).
فإذا كان المشرع قد تبنى مؤسسة قاضي التحقيق في قانون المسطرة الجنائية الجديدة مع إجراء تغير في الوعاء الذي يشمل التحقيق الإعدادي بحيث بموجب قانون المقتضيات الانتقالية أصبح إلزاميا فقط في الجنايات والمعاقب عليها بالإعدام أو بالسجن المؤبد (المادة 7 من ظهير المقتضيات الانتقالية) وفي الجنايات التي يتم ارتكابها من طرف الأحداث وكذلك التحقيق في الجنح بنص خاص، اما إمكانية التحقيق في المخالفات فقد تم إسقاطها بل فقد تم إعفائها من التحقيق الإعدادي بالمرة. بالإضافة إلى الجنح التي تقل عقوبتها عن خمس سنوات.
الفقرة الثانية: سلطات قاضي التحقيق
باعتبار أن النيابة العامة الابن البار للسلطة التنفيذية تأتمر بأوامرها وتنفد التزاماتها، قد أسند لها المشرع مهمة وضع وصياغة قانون المسطرة الجنائية، وهذا ما جعلنا تبالغ نوعا ما في حماية نفسها من كل ما يضيق من نطاق سلطتها في المرحلة ما قبل المحاكمة أي مرحلة الاتهام عن طريق تمتيع نفسها بحصانة مهمة جدا، تتمثل هذه الضمانات في عدم قابلية هذا الجهاز بالإبعاد من القضية سواء أمام التحقيق الإعدادي الذي أسندت مهامه لقاضي التحقيق أو أمام المحكمة، وهذا ما يزيد من بؤس وضعية قاضي التحقيق في ممارسة السلطات المخول له للنهوض بأعباء التحقيق الإعدادي لما ينفع مبدأ تأسيسه، والمتمثل في تعميق البحث لإظهار الحقيقة التي تعتبر أحد أهم الضمانات التي يتمتع بها المتهم في تأسيس برائته وفقا لمبدأ قرينة البراءة.
وهذا لن يتأتى إلا عن طريق دراسة المسطرة المتبعة من طرف قاضي التحقيق للنهوض بأعباء التحقيق الإعدادي والمتمثلة في:
أولا: استنطاق المتهم
ثانيا: الاستماع للشهود
ثالثا: التنقل وتفتيش والحجز
أولا: استنطاق المتهم
يعتبر المتهم هو الحلقة الأساسية في مسلسل التحقيق الإعدادي، ولهذا فأول ما يبدأ به قاضي التحقيق عادة إذا كانت هويته الضنين معروفة هو الشروع في استنطاقه استنادا إلى مقتضيات المادة 134 ق م ج، بناء على الأهداف التي يسعى التحقيق التوصل إليها، وخاصة الوصول إلى الحقيقة التي تعتبر استنطاق المتهم من ضمن أهم الإجراءات على الإطلاق، ولكون هذا الإجراء على درجة قصوى من الأهمية، فإن الإشكال الذي يطرح بخصوص هذا الموضوع يتمثل في المفهوم الذي يعتمد عليه قاضي التحقيق في التعامل مع الضنين، هل هو مفهوم اتهامي مسايرا بذلك نهج سياسة النيابة العامة المتمثلة في تدعيم خطورة المتهم واعتباره عدوا لها يجب التصدي له، أو الاعتماد على أهم مبدأ أسست عليه المسطرة الجنائية( ) القائمة على ترسيخ المحاكمة العادلة والقائمة أيضا على أساس أن أصل الإنسان البراءة، ومبنى قرينة البراءة أن المتهم وهو برىء بإثبات تلك البراءة وإنما على من يدعي خلاف ذلك الأصل هو البراءة أن يثبت تلك الإدانة وتلك هي أبسط قواعد الإثبات، وهذا ما سارت عليه محكمة النقض بالرباط حيث جاء في أحد قراراتها أن «الإثبات بمعناه القانوني هو إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون فهو قوام الحق الذي يتجرد من قوته ما لم يقم الدليل عليه»( ) ويقع عبء الإثبات الجنائي دائما على عاتق الاتهام وليس على المتهم أن يثبت براءته وبالتالي لا يمكن أن يتخذ من مجرد سكوت المتهم دليل ضده ولا يجبر على أن يدلي بما لا يريد قوله، فالبراءة المفترضة في المتهم تقتضي معاملة صاحبها بوصفه حر بريئا ولا يتفق البتة مع افتراض تلك البراءة تكليف المتهم عبء إثبات براءته وعلى من يدعى خلاف ذلك إثبات أنه غير بريء وأن الإدانة تتوافر في حقه( ).
وتجدر الإشارة إلى أن شكليات مسطرة الاستنطاق ليست على صنف واحد، بل إنها تختلف حسب ما إذا كان استنطاق المتهم يتم في إطار الاستنطاق الابتدائي أو الأولي أو ما يعرف باستنطاق المقابلة الأولى، أو حسب ما إذا كان هذا الاستنطاق يتم في إطار شكليات ومسطرة الاستنطاقات اللاحقة للاستنطاق الأولي والابتدائي وهي ما يعرف بمسطرة الاستنطاق التفصيلي.
بحيث يتميز الاستنطاق الأولي عن باقي الاستنطاقات التي يخضع لها المتهم لاحقا من طرف قاضي التحقيق في كونه أنه في إطار التحقيق الابتدائي يمثل المتهم، وذلك لأول مرة أمام قاضي التحقيق وذلك بصفته متهما عن الأفعال المرتكبة والتي بسببها تم فتح التحقيق الإعدادي بشأنها ونظرا للحس المرهف للمشرع في تقدير الوضعية النفسية للمتهم وهو لأول مرة يتمثل أمام القضاء وما يصيبه من ذعر وخوف قد يجعله يتلفظ بأشياء قد يحاسب من أجلها فيما بعد، فلذلك واستنادا لمقتضيات المادة 134 ق م ج فقد عمد المشرع على تحديد موضوع هذا الاستنطاق بشكل محكم. معتمدا بذلك على النهج السياسي أكثر ما هو مكسب حقوقي لصالح العدالة الجنائية، فالتأكد من هوية المتهم ومن تم إشعاره بحقه في الدفاع، وبعد ذلك إشعاره بالتهم المنسوبة إليه مع حقه في التزام الصمت، حقا صياغة قانونية بعيدة من كل تدليس أو غبن، إلا أنه ما معنى قيام قاضي التحقيق باستدعاء المتهم والشروع في استنطاقه ابتدائـيا كما نصـت المادة 134 ق م ج، ومن ضمن بنود هذه المادة حق الضنين في مؤازرة الدفاع فهل يعتقد المشرع بأن مقر المحاسب داخل المحكمة، فما على المتهم إلا ليصرح بإيجابه وحتى ولو صرح بذلك فما معنى حضور الدفاع بعد انتهاء المرحلة الأولى من التحقيق التي قد تكون هي الحاسمة في بناء قناعة القاضي، هل لأخذ أتعاب التعين أو التمتع بوجه المتهم.
بحيث لو كان المشرع رتب البطلان على كل مخالفة هذا الفصل أي الفصل 134، وكذا كل الإجراءات اللاحقة له فإن الواقع العملي المرير بين على حقيقة لا خلاف فيها وتتمثل في موقع الضعف الذي يكون فيه المتهم في إثبات هذه الخروقات، فلا يعتد قانونا بمجرد القول بعدم تمتيع المتهم بأحد الضمانات التي خولها لها الفصل 134 ق م ج.
ولهذا أقر الفقه يخلو هذا الفصل من أي ضمانة قانونية على أرض الواقع، وقد ساير هذا الاتجاه المجلس الأعلى بحيث لم يرتب البطلان على أي إجراء مخل بإحدى الضمانات المقررة للمتهم متناقدا في ذلك مع المحاكم الوطنية التي ترتب البطلان على كل خرق أو تجاهل لبند من بنود المادة 134 ق م ج..
ثانيا: الاستماع إلى الشهود
الشهادة وسيلة إثبات هامة وخطيرة في آن واحد، هامة لأنها أكثر وسائل الإثبات استعمالا في الميدان الجنائي وفي مختلف المراحل، وخطيرة لأنها تتطلب كثيرا من الحذر من طرف القاضي الذي يقدرها، لأن الشاهد كثيرا ما يكون متحيزا أو قد تخونه ذاكرته.
وعلى الرغم من الاحتياطات التي تتخذ من طرف القانون، فإن الشهادة يمكن أن تكون غير صادقة ومتأثرة بالتهديد أو الوعيد. وإذا كانت الشهادة لا تختلف من حيث طبيعتها فإن أحكامها ليست واحدة تبعا لما إذا كانت ستؤدى أمام قضاء التحقيق أو أمام النيابة العامة خاصة أن المشرع وزع أحكام الشهادة في أماكن مختلفة من المسطرة الجنائية، فإذا كانت هذه هي المميزات الأدبية والمنطقية والأخلاقية لمفهوم الشهادة والشاهد فإن الواقع العملي أبان عكس مفهومه، بحيث اعتبره وسيلة من وسائل التحايل على القانون بمفهومه الحق، ونقول هذا ونحن من بين المنادين بالتضييق في مجال الشهادة ومجالها في الدعوة العمومية واعتبارها وسيلة للاستئناس طالما أن المواطن أصبحت تنعدم فيه المصداقية وأصبحت عمليا وسيلة لمعاناة القضاة وأداة لتضليلهم، كما أن الواقع المرير للقضاء المغربي أفرز ظاهرة الشهادة بالأداء أو بالمقابل وهي على أية حال ظاهرة يعرفها كل الممارسين في حقل العدالة المغربية.
وتطبيقا لمقتضيات المادة 117 م ج والتي أرست الإطار العام الذي بموجبه تم تنظيم الشهادة والشهود، بحيث نصت على أنه يمكن لقاضي التحقيق استدعاء أي شخص يرى فائدة لسماع شهادته( ).
إلا أن الإشكال الذي يطرح، ما هي الصفة التي يتعامل بها قاضي التحقيق مع هذا الشخص أي الشاهد هل هو دعامة من أجل إظهار براءة المتهم أم أنه يتعامل معه نصفة مسطرية إما استنادا لما ضمن في ملتمس إجراء التحقيق أو قناعته الشخصية.
ويعتبر هذا المجال من ضمن المبادئ العامة التي يمكن اعتبارها بمثابة مبدأ عام يحتكم إليه قاضي التحقيق وذلك في نطاق الاستماع للشهود من أجل تدعيم براءة المتهم وتمتيعه بحقه في انتزاع صفة الضنين.
فعلى الرغم من أن الشاهد لا يتمتع بأية ضمانات أمام قاضي التحقيق وذلك على غرار المتهم، إلا أنه إذا كانت هناك شكوك تحوم حوله أو أدلة قد تصنع منه متهم، فقد أقر الفقه مبدأ عام في هذه الحالة ينص على تمتيع الشاهد بجميع الضمانات التي جاءت بها مسطرة الاستنطاق الأولي التي تنص على ضرورة تمتع المتهم بكل الضمانات المنصوص عليها في الفصل 134 ق م ج.
وبالنظر إلى مسطرة استدعاء الشهود نجد المشرع بالإضافة إلى توجيه الاستدعاء إلى الشاهدة من أجل المثول أمامه للإدلاء بشهادته، وقد أجاز في المقابل في حالة عدم استطاعة هذا الشاهد للمثول أمامه بسبب من الأسباب أن يعين من ينوب عليه للقيام بعملية أو مهمة الاستماع له، فقد تكون هذه الإنابة موجهة لضباط الشرطة القضائية بحيث يمكن لهم أن يسمعوا لشهادة الشاهد ومحتواها وتأويلها وإنجاز محضر بذلك قد يكون هو الضريبة القاضية أو النقطة التي تفيض كأس الاتهام على الرغم من الانتقادات الموجهة لهذه الهيئة من عدم خبرة أو كفاية قانونية لإسناد إليها هذا الأمر الذي يتحكم ويحدد مصير حرية الإنسان.
فإذا كان المشرع قد أجاز لقاضي التحقيق استدعاء من الشهود ما شاء من أجل فك لغز أو ألغاز قضية موضوع التحقيق استنادا إلى الفصل 117 ق م ج، فإنه في المقابل أورد استثناء على هذه القاعدة والمتمثلة في مسطرة استدعاء أعضاء الحكومة وذلك للإدلاء بأفواههم وشهادتهم أمام قاضي التحقيق. فهي تخضع لقواعد خاصة استثنائية عبر تلك المعمول بها في الأحوال العادية وذلك تطبيقا للمادة 133 م ج.
وهكذا يمكن القول على أنه يمنع على قاضي التحقيق وذلك تحت طائلة إثارة مسؤوليته القانونية والتي يمكن أن تترتب عن ذلك استدعاء كل الأشخاص المشمولين بسر المهنة –كالمحامين مثلا- والذين قد يكونوا عملوا بصفتهم هذه بوقائع أو معطيات قد تفيد التحقيق.
وإذا كانت الشهادة تؤدى شفاهيا فهل يكون ذلك عن طريق السؤال والجواب أو عن طريق تمكين الشاهد من الإدلاء بما يريد ودون تدخل أو مقاطعة؟ نظرا للانتقادات الموجهة لهذا الموضوع بحيث قد عبر فيها بعض الفقهاء بوصفها سيف ذو حدين، إما أن تكون أداة أو وسيلة لإظهار الحقيقة في تدعيم براءة المتهم أو أن تكون أداة لتضليل العدالة لما يخدم أطراف الدعوة، والتطبيق العملي يسير نحو الجمع بين الطريقتين بحيث يعمد القاضي إلى طلب من الشاهد أن يدلي بما عنده من معلومات ثم بعد ذلك يستفهم من نقطة أو أخرى. وعلى كل فالشهادة لا تنصب إلا على الوقائع التي رآها الشاهد أو سمعها بحيث لا يطلب منه وجهة نظره فيها، كما يجب أن لا يوحي إليه بأي شيء في الموضوع كإستجراره إلى جهة أو نقطة معينة.
فالشهادة أمام قاضي التحقيق لا تكون محلا للمناقشة وإنما يدعى الشاهد لإعادة قراءتها والتوقيع عليها إذا كان لازال مصرا عليها، وهذا يعتبر حيف وخرق لحقوق المتهم خصوصا إذا كانت هذه الشهادات هي مصدر إدانته بالأفعال المنسوب إليه، فقاضي التحقيق بصفته القائم على إظهار الحقيقة كان متوجب عليه إعادة استنطاق هؤلاء الشهود للوقوع على كل تناقض قد يقع فيه هذا الشاهد ما بين ما أدلى به في الشهادة الأولى أمام الضابطة القضائية والثانية أمام قاضي التحقيق، فاكتفاء القاضي بجرد ما قيل في المرحلة الأولى يعتبر شيء غير منطقي بالمرة، فقاضي التحقيق بصفته هذه يعتبر أحد الركائز الموجهة لإظهار الحقيقة وترسيخ العدالة الجنائية وتدعيم قرينة البراءة كأصل في المتهم دون التقيد بما جاء في ملتمس النيابة العامة وما توصلت إليه وإلا أصبحت مهامه إلا تحصيل حاصل.
ثالثا: التنقل والتفتيش
لا ينحصر مجال عمل قاضي التحقيق في مكتبه ولا يقتصر دوره على التحقيق فيما تنقله محاضر الضابطة القضائية، بل إن ميدانه أوسع من مكتبه ومهمته أعظم من التحقيق الابتدائي مما يدعوه أحيانا إلى الانتقال إلى الميدان لإجراء معاينات مادية أو للقيام بعمليات التفتيش أو الحجز التي يراها مفيدة لإظهار الحقيقة( ) وقد خص المشرع المغربي في القانون الجديد لموضوع التنقل والتفتيش والحجز في المواد من 90 إلى 107 من الباب الرابع المشار إليه في القسم الثالث المتعلق بالتحقيق الإعدادي من الكتاب الأول تحت عنوان “التحري عن الجرائم ومعاينتها”.
أ- التنقل:
إذا كانت هذه الميزة قد كان معترف بها للنيابة العامة كأحد إجراءات التحقيق التمهيدي، فإنه بالمقابل قد تم الاعتراف بها لقاضي المحقق ليقف بنفسه على معلومات يصعب بل يمكن أحيانا أن تصل إليه من سبيل آخر( ) ولهذا فهي وسيلة يتمكن بواسطتها قاضي التحقيق من الإدراك المباشر للجريمة ومرتكبها.
إن مهمة قاضي التحقيق كمحقق لإظهار الحقيقة بكل حرية لاعتباره قاصا من القضاة الجالسين تفترض عليه أحيانا الانتقال إلى الميدان لإجراء معاقبات مادية لم تجرها الضابطة القضائية أو لتكميل معاينة قامت بها الشرطة القضائية وذلك لتأكد مما ضمته هذه الأخيرة من حيثيات. وعندما ينقل إلى عين المكان فإنه يكون ملزما دائما بأن يصحب معه كاتب الضبط الذي يسهر على تحرير محضر على كل العمليات التي تم إنجازها من تفتيش وحجز إلى غير ذلك، فإذا كان هذا موقف يعظم عليه المشرع، فإن هذا ليس على سبيل الإطلاق بحيث عمد في المقابل بتقيد مهمة قاضي التحقيق عن طريق لزوم وإجبارية استشارة النيابة العامة بذلك، وهذا ما يبرر الوضعية المزرية لقاضي التحقيق في تبعيته لسلطة النيابة العامة التي تعتبر اليد اليمنا للسلطة التنفيذية.
ب- التفتيش:
هو وسيلة الإثبات أدلة وعادية ويقصد به البحث مادي يفيد في مكان ما سواء كان مسكونا أو غير مسكونا وذلك لتبديد كل الشكوك التي توصل إليها في إطار الاستنطاق الابتدائي وما ضمن في ملتمس إجراء التحقيق من طرف النيابة العامة، وقد نصت المسطرة على هذا الإجراء في الفصل 101 من ق م ج.
ونظرا لخطورة هذا الإجراء ولحساسيته المفرطة بحيث تعتبر أحد مظاهر انتهاك حرية الضنين بحيث بمجرد الأمر بالتفتيش يعتير حيف بالنسبة للمتهم وإهانة له، بل والاعتراف له بصفة المتهم قبل صدور حكم بذلك وهذا إهدار لقرينة البراءة التي تضمن للمتهم كرامته وقيمته الاجتماعية خصوصا داخل مجتمع جمعوي كالمجتمع المغربي الذي يؤمن بما يقال أكثر مما يرى.
ونظرا لخطورة هذا الإجراء فقد عمل المشرع إحاطته بضمانات هامة تكرس لمفهوم قرينة البراءة، فاستنادا إلى الفصل 101 م ج «يجري التفتيش في جميع الأماكن التي قد يعثر فيها على أشياء يكون اكتشافها مفيدا لإظهار الحقيقة ويجب في هذه الحالة على قاضي التحقيق تحت طائلة البطلان أن يتقيد بمقتضيات المواد 59 و60 و62.
وهكذا فإذا كان المشرع قد اعترف لقاضي التحقيق بالحقيقة بالتفتيش فإن ذلك لن يكون إلا بشروط أساسية لضمان كرامة وحرمة المسكن والمتهم وتتمثل هذه الشروط في:
الشرط الأول: أن يتعلق الأمر بجنية.
الشرط الثاني: ويهم من يقع التفتيش في منزله، ويجب أن يكون هو المتهم نفسه، فإذا كان رب المنزل شخص آخر أوجب تفتيشه كمبدأ عام داخل ساعات القانونية لإخراجها، وعلى خلاف هذا الحكم فإن الفصل 4 من القانون العدل العسكري يسمح بتفتيش أي منزل خارج الوقت القانوني حتى ولو كان منزلا غير منزل المتهم.
الشرط الثالث: ينفي أن يقوم بالتفتيش قاضي التحقيق شخصيا ولابد أن يكون برفقة كذلك النيابة العامة.
وعلاوة على ذلك ينفي على قاضي التحقيق أن يتخذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على السر المهني إذا كان التفتيش واقعا بمنزل شخص ملزم.
_________________________
– نجاة بضراني: “المدخل لدراسة القانون” ج. 1، (نظرية القانون) ص304.
– محمد عياظ: “دراسة في المسطرة الجنائية المغربية”، ج. 2، ط. 1، 1991، الناشر شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، ص91.
– الفصل الأول من المسطرة الجنائية.
– نقض في الطعن رقم 20 لسنة 54 قضائية جلسة 27/5/1989.
– د. أحمد فتحي سرور: “الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية”، م، س.
– تحيل هذه المقتضيات على نفس الصلاحيات التي يتمتع بها ضباط الشرطة القضائية والتي بموجبها يمكن منع أي شخص من مغادرة مكان ارتكاب الجريمة ولربما تم اتخاذ في حقه إجراء الوضع تحت الحراسة النظرية، راجع مقتضيات المادة 65.
– أحمد بوسقيعة: “التحقيق القضائي”، دار الحكمة للنشر والتوزيع، ص87.
– محمد عياض: “دراسة في المسطرة الجنائية المغربية.
المطلب الثالث: سلطات قاضي التحقيق في تكيف الفعل الجرمي والأمر بفتح التحقيق
سبق القول بأن لجنة واضعي المدونة تكونت أغلبها من قضاة النيابة العامة، وهذا ما جعل هذه اللجنة تبالغ نوعا ما في حماية أنفسهم من الاعتبار عن طريق تمتيع أنفسهم بحصانة مهمة جدا وكذلك لكون المشرع وفي سياسته العامة يود تعزيز وتقوية مركز النيابة العامة في المجتمع لاعتبارات سياسية لا تخفى عن الجميع وفي اعتبارها الابن البار للسلطة التنفيذية تأتمر بأوامرها وتنفذ سياستها( ). وهذا ما توصلت إليه هيئة الإنصاف والمصالحة المكلفة بجبر الضرر الناتج عن الحقيقة الزمنية ما بين 1958-1998، التي سميت بسنوات الجمر والرصاص، وتكمن هذه الحصانة في وضع قاضي التحقيق تحت رقابة هذا الجهاز فيما يخص الإجراءات المتخذة في التحقيق الإعدادي.
فإذا كان القانون الجديد وخاصة المادة 75 منه الحق لقاضي التحقيق، إذا كان حاضرا بمكان وقوع الجريمة المتلبس بها في أن يتخلى له الوكيل العام للملك ووكيل الملك أو ضابطة الشرطة القضائية بقوة القانون عن عملية البحث، إلا أن المادة 84 من نفس القانون ورد فيها أن قاضي التحقيق لا يستطيع إجراء أي تحقيق إلا بعد أن يتلقى من النيابة العامة ملتمسا بإجراء التحقيق ولو كان قاضي التحقيق يقوم بالمهام المخولة له في حالة تلبس، فالنيابة العامة هي الجهة المخول لها تعين من يحقق في القضية عند تعدد قضاة التحقيق لدى محكـمة الاستـئناف (9م ج) كما يمكن أن تقدم ملتمسا للغرفة الجنحية بحسب القضية من قاضي التحقيق وإحالتها على قاضي آخر للتحقيق حسب الفصل 91 م ج.
طبعا ستختار النيابة العامة من يميل أساسا إلى تبني وجهات نظرها بشكل أو بآخر أي أنها ستختار من ضمن قضاة التحقيق من تستشعر أنه جزء من سلطة الاتهام أكثر من انتمائه إلى جهاز يطلق العنان لسلطة التحقيق، أي أحد قضاة النيابة العامة في زي وصفه قاضي التحقيق، وهذا الوضع بالتأكيد ليس له فقط مساس بحياد هذا الأخير ونزاهته، بل له مساس بشكل خطير بوضعية المتهم وبمجمل الضمانات التي يتمتع بها، لأن من سيقوم بالتحقيق شخص مشكوك في حياده وذلك لعلاقته المشبوهة بالشكوك لقيامها على اعتبارات رضى النيابة العامة عليه دون باقي قضاة التحقيق وتفضيله بملفات قضايا هامة أو مثيرة للرأي العام الوطني أو الدولي، وهذا كله شبهة مؤكدة( ) وهي كما سلفنا كلها اعتبارات يتعين أن تقود آليا وحتميا إلى تجريح قاضي التحقيق المذكور.
وما يزيد الطين بلة ويؤزم من وضعية قاضي التحقيق هي التبعية العمياء لهذا الأخير لنيابة العامة، بحيث تقوم أيضا بإحالة محاضر الشكايات والانابات على هيئة التحقيق وكذلك تقديم الملتمسات بقصد القيام بإجراءات التحقيق ولو كان واضعا يده على القضية في حالة تلبس طبقا للمادة 84 من ق م ج. في الواقع لا نجد تبرير لتقديم ملتمس في هذه الحالة إلا لتذكير قاضي التحقيق بوضعيته المزرية.
كما أن للنيابة العامة أن تطلب من قاضي التحقيق القيام بكل إجراء مفيد لإظهار الحقيقة أو ضروري للحفاظ على الأمن، ولا يمكن إجراء بحت من طرف قاضي التحقيق إلا بناء على ملتمس كتابي محال إليه من النيابة العامة أو بناء على شكاية المتضرر المنتصب طرفا مدنيا، وفي إطار علاقة قاضي التحقيق مع النيابة العامة فإن القانون الجديد للمسطرة الجنائية يلقى مجموعة من الواجبات على عاتق قاضي التحقيق، منها:
1- إحالة ملف القضية على النيابة العامة لاستدعاء للمحاكمة طبقا لقانون المادة 209 م ج.
2-تبليغ الشكاية إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك في حالة اتخاذه موقفا مخالفا لملتمس النيابة العامة يصدر بذلك أمرا معللا مادة 93.
3-إشعارها عند الانتقال إلى التفتيش ولها إمكانية مرافقته طبقا للمادة 99 قانون المسطرة الجنائية.
4-إخبار النيابة العامة عند الانتقال خارج نفوذ المحكمة باعتباها وصية عليها، المادة 100.
5-لا يصدر قاضي التحقيق الأمر بإلقاء القبض إلا بعد استشارتها، المادة 144 قانون المسطرة الجنائية.
6-يجوز لقاضي التحقيق بعد تلقي رأي النيابة العامة أن يأمر بإخضاع المتهم للعلاج ضد التسمم طبقا لمقتضيات المادة 88 من ق م ج.
7-يجب تبليغ النيابة العامة، دورا فعالا باستئناف قرارات قاضي التحقيق النيابة في رد الأشياء المحجوزة بعد صدور قرار بعدم المتابعة، المادة 107.
8-يجب تبليغ النيابة العامة بقرار إجراء الخبرة، فهذا الشرط لا معنى له ما دام لا يمكن لنيابة الطعن فيه (م 196) وبأمر الاعتقال الاحتياطي أو بالإفراج المؤقت (المادة 178).
9-تقديم طلب الافراج المؤقت إلى الغرفة الاستئنافية طبقا لنفس الشروط والآجال المنصوص عليها في المادتين 179 و180.
10-تقديم الطعن بالاستئناف في قرارات الإفراج مع بقاء المتهم رهن الاعتقال الاحتياطي إلى أن يبث في الاستئناف، بغض النظر على المدة التي قد يستغرقها النص في الدعوى طبقا للفقرة 2 من المادة 181.
11- مطالبة قاضي التحقيق بفتح تحقيق مؤقت بواسطة ملتمس كتابي، الفقرة 4 من المادة 93.
12-تقديم النيابة العامة ملتمسا بخصوص الأوامر القضائية بشأن انتهاء التحقيق، المواد 214 إلى 217.
13-توجيه النيابة العامة إلى قاضي التحقيق ملتمساتها بشأن الأوامر الآتية:
-انتهاء البحث
-الأمر بعدم الاختصاص
-الأمر بعدم المتابعة
الأمر بوضع حد للوضع تحت المراقبة القضائية، المواد 214 إلى 217.
14-للنيابة العامة حق الاستئناف أمام الغرفة الجنائية لكل الأوامر الصادرة عن قاضي التحقيق باستناد الأمر القاضي بإجراء الخبرة وتبلغ لها داخل أجل 24 ساعة من استئناف المتهم والطرف المدني، المواد 222 –227.
15-يحق للنيابة العامة وحدها أن تقرر ما إذا كان هناك مبرر لالتماس بسبب ظهور أدلة جديدة (الشهود والمحاضر والمستندات) طبقا للمادة 228-230 م ج.
يمكن القول أن المشرع من خلال قانون المسطرة الجنائية الجديدة قد وضع لبنات جديدة لمؤسسة قاضي التحقيق بالنظر إلى دورها الفعال في مجال التحقيق الإعدادي الذي أسس على أساس حماية المتهم والمجتمع على حد سواء، كما أنه وسع من اختصاصات هذه المؤسسة وخلق ثنائية للتحقيق الذي كان محضورا في السابق في محاكم الاستئناف. إلا أن الوضع كفيل أعلاه باعتباره بارزا وصارخا على فكرة اللامساواة وطغيان وتسلط الدولة والذي يؤمن به المشرع، فالنيابة العامة خصم فكيف يمكن للخصم أن يكون شبه رئيس لمن يقوم بالتحقيق ففاقد الشيء لا يعطيه. وتبقى هذه التجربة رهينة بما سوف تسفر عنه الممارسة القضائية في تفعيل المقتضيات الإجرائية الجديدة.
_____________________________
– تقرير هيئة الانصاف والمصالحة الذي قدم إلى الملك محمد السادس والذي تبنى مجموعة من التوصيات لعدم تكرار ما جرى، ومن أهم هذه التوصيات استقلال النيابة العامة عن وزير العدل، والنص صريح على تطبيق الاتفاقيات الدولية على القانون الوطني.
– راجع في هذا الاتجاه: محمد عياض: “دراسة في المسطرة الجنائية”، م. س، ص103. فقرة 549.
المبحث الثاني: قضاة الحكم
تعتبر مرحلة المحاكمة تجسيدا لروح القانون وإرادة المشرع، فهي المرحلة الثالثة التي تمر بها الدعوى الجنائية بعد مرحلتي الاتهام والتحقيق، وينصرف مدلول المحاكمة إلى مجموعة الإجراءات التي تستهدف تمحيص أدلة الاتهام والنفي والنظر في طلبات ووقوع الخصوم والانتهاء بإصدار الحكم الجنائي. ولهذه المرحلة خصائصها الذاتية التي تميزها عن غيرها من إجراءات الدعوى، فقضاء الحكم هو السلطة المختصة بمباشرة المحاكمة، والتحقيق النهائي إجراء ضروري. فمن المقرر أنه لا يجوز للمحكمة أن تكتفي بالتحقيقات الأولية للحكم في الدعوى وإنما عليها أن تحقق بنفسها في التهمة المعروضة عليها وتلتزم بالقواعد المقررة في الإثبات إذ يتم من خلالها تمحيص وتقدير الأدلة سواء ما كان منها لإثبات التهمة أو لنفيها عن المتهم، ويجب أن يتأسس الحكم بالإدانة على الجزء واليقين في حين يكفي الشك لتبرئة المتهم.
وتعد إجراءات المحاكمة والفصل في الدعوى من الإجراءات الضرورية لتطبيق القانون، فهي وفاء بالتزام دستوري، ومن المبادئ الدستورية والجنائية أنه «لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي» «لا توقع عقوبة على متهم حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه» «وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات».
وما يميز فترة المحاكمة أنه فيها يتم تقدير الأدلة بصفة نهائية ويتحدد فيها مصير المتهم ومن تم فقد أحاطها المشرع بضمانات هامة تحمي المتهم ومصالحه وقرينة البراءة المفترضة فيه، وعلى هذا الأساس ستتم مناقشة وتوضيح أهمية هذه المرحلة على المتهم من خلال ربطها بالتزامات القاضي وصلاحياته ومدى تأثير كل منهما على قرينة البراءة. المطلب الأول: التزامات قاضي الحكم
الفقرة الأولى: القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي
ومدلول هذا الالتزام يفيد أن القاضي وهو يفصل في أي دعوى، يجب عليه التمسك بالحقيقة القضائية دون الحقيقة الشخصية والتي تثبت عن طريق رسمي وهو القانون. فالمبدأ العام هو أن يتقيد القاضي في ممارسة حريته في الاقتناع وتكوين عقيدته بقيد عدم الفصل في الدعوى الجنائية بناء على معلوماته الشخصية لأنه يجب أن يستند في حكمه على أدلة لها أصل في الأوراق فيجب على القضاة أن يفصلوا بين حياتهم خارج وداخل المحكمة وعدم الخلط بين علمهم الشخصي في الدعاوى كما لو سبق لقاضي البث في قضية ما، فيها أدين مثلا متهم لارتكابه جريمة السرقة وبعد مرور زمن أحيل نفس الشخص على أنظار نفس القاضي بتهمة مماثلة فلا يمكنه الحكم عليه بناء على علمه المسبق دون التثبت والإحاطة بماديات الواقعة لمجرد سوابقه، فيجب أن يتخذ موقفا سلبيا اتجاه علمه. وفي هذا الالتزام ضمانة هامة لكل متهم يعرض على المحكمة وتدعيما لقرينة البراءة، بالرغم من إغفال المشرع المغربي النص عليها في قانون المسطرة الجنائية، ورغم ذلك فإن العمل بها يبقى التزاما على عاتق القضاة.
فالنص على ضرورة التزام قضاة الأحكام بعدم القضاء بعلمهم يخدم قرينة البراءة من حيث أنه يحمي كل شخص بعدم إدانته بناء على تحكمية القضاة أو استعمالهم لسلطتهم الإقرار أو تسوية خلافات شخصية، وفي الوقت ذاته لا تخدم قرينة البراءة بعدم النص على التخفيف من حدته وترك مجالا للقضاة يمكنهم فيه تجاوزه، لأن التمسك الحرفي بهذه القاعدة يكون هو نفسه مجافيا للواقع وينعكس سلبا على قرينة البراءة، فعندما أقر الفقه العمل بهذه القاعدة كان عليه إضفاء بعض المرونة عليها وأبرز مثال على ذلك، قضية شهيرة وقعت في جزيرة مالطا ونظر فيها قاضي يدعى كامبو -CAMBO-( ) وتتلخص وقائعها في أنه وفي أوائل القرن الثامن عشر شغل هذا القاضي أحد المراكز القضائية الرئيسية بجزيرة مالطا. وحدث أنه بينما كان يرتدي ملابسه في صباح أحد الأيام لفت نظره مشاجرة وقعت تحت نافذته ولما تطلع للخارج رأى رجلين يتشاجران ثم طعن أحدهما الآخر بخنجر صغير.
ورأى القاضي وجه القاتل بوضوح عندما هم بالفرار… وفي نفس الوقت ألقى بجراب الخنجر بعيدا ثم اختفى… ظهر بعد ذلك خباز كان على مقربة من محل الحادثة وعثر أولا على جراب الخنجر فأخذه ووضعه في جيبه. ولكن ما إن وقع نظره على الجثة حتى ارتعد وفر هاربا خشية اتهامه بارتكاب الجريمة وكل هذه الأمور وقعت على مرأى من القاضي كامبو… إثر ذلك وصل رجال البوليس إلى محل الحادث ولما لاحظ فرار هذا الرجل من بعيد طاردوه وتمكنوا من القبض عليه، ولما فتشه أحدهم وجد معه جراب الخنجر… والقاضي كامبو هو الذي ترأس جلسة محاكمة هذا الخباز ولم يقم بأية محاولة لحمايته حيث طبق بأمانة مبدأ “عدم قضاء القاضي بعلمه” ورأى أن واجبه يقضي عليه تفحص القضية على أساس الأدلة المقدمة فيها كأية قضية أخرى… واعتبر المتهم مرتكبا للجريمة طبقا لنصوص القانون وحكم عليه بالإعدام.
ويلاحظ من خلال مقتضيات هذه القضية أن القاضي تمسك بالتطبيق الحرفي للقاعدة وقضى بإدانة المتهم المعروض عليه متناسيا أن الأساس في الدعوى ليس هو إدانة أي شخص لبيان أن العدالة تأخذ مجراها وإنما عقاب المرتكب الحقيقي للفعل الإجرامي، فما كان يجب عليه اتخاذ هذا الموقف خصوصا وأن عدم قضاء القاضي بعلمه تنحصر على الأشخاص فقط دون الوقائع وحيثيات الجريمة، لذلك فلو أن القوانين نصت على مرونة مقيدة في تطبيق القضاة لها لما أمكن إدانة وإعدام متهم بريء وبالتالي إهدار قرينة البراءة.
يبقى الإشارة إلى الدور الذي يجب أن يتبعه المجلس الأعلى في هذا المجال، حيث أن القانون ألزم القاضي بعدم القضاء بعلمه وضمانا لها ألزمه كذلك بتعليل الحكم تدعيما منه لمقتضيات المادة الأولى من ق م ج، ولكن دائما في قالب فارغ من محتواه فمن يضمن أن القضاة لن يؤسسوا حكمهم بناءا على علمهم وإسناد ذلك إلى اقتناعهم بالأدلة طالما أن بطلان الحكم يترتب في حالة عدم تعليل الحكم أو في حالة التعليل الصوري والذي يعني ترجيح أدلة على أخرى، ولكن تتدخل عوامل خارجية كالعلم الشخصي أو أمور خاصة كانت السبب في ترجيح ذلك الاختيار.
وعلى اعتبار أنه لا يمكن معرفة النوايا الحقيقية للقضاة وطريقة تفكيرهم، يبقى للمجلس الأعلى أن يبرز حضوره القوي وذلك من حيث أخذه أو عدم أخذه بالتعليل.
وحيث أن هناك علاقة وطيدة بين التزام القاضي بعدم الحكم بناءا على علمه ومشتملات الحكم أي الحجج التي اعتمدها في تأسيس حكمه لكي لا يكون حكمه محل طعن فهو ملزم بالحجج المعروضة عليه مصداقا لذلك جاء في قرار للمجلس الأعلى( ) (أنه بمقتضى الفصل 287 من قانون المسطرة الجنائية فإن القاضي لا يمكنه أن يبني مقرره إلا على حجج عرضت عليه أثناء الإجراءات ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامه، ولهذا يتعرض للنقض المقرر الذي يبني على علم رئيس الجلسة عندما قام بالتحقيق في قضية سابقة).
الفقرة الثانية: التزام القاضي بالحجج المعروضة عليه
استنادا على مقتضيات المادة 287 من ق م ج والتي نصت على أنه «لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامها» فإنه يمنع منعا كليا على قضاة الحكم تأسيس وإصدار حكمهم في أي ملف بناء على حجج لم تعرض عليهم شخصيا وتمت مناقشتها من قبل الأطراف، فهم ملزمون عند النظر في أي دعوى عمومية بالحجج المعروضة عليهم فقط بالإضافة لصلاحيتهم للبحث عن وسائل إثبات أخرى، كذلك الأمر بالنسبة لأطراف الدعوى طالما أن الإثبات في القانون الجنائي معروف بحرية الإثبات وطالما أيضا أن مجموع هذه الوسائل ستعرض على جلسة الأحكام للتثبت منها.
ومن بين أهم النتائج التي تترتب على التزام القاضي بالحجج المعروضة عليه والتي تعتبر بحق تدعيما من المشرع لجوهر قرينة البراءة المعترف بها دوليا للمتهم هي ارتباط القاضي الواحد بمجمل إجراءات المحاكمة منذ فتح الملف إلى حين صدور حكم نهائي وذلك تطبيقا للفقرة الثانية من المادة 297 من ق م ج، والتي تنص على أنه «يجب تحت طائلة البطلان أن تصدر (المحكمة) مقرراتها من قضاة شاركوا في جميع المناقشات» وفي حالة ما إذا حدث عائق لأحد القضاة منعه من إتمام المحاكمة فيتعين عكس ما هو معمول به بالنسبة لقضاة النيابة العامة لتفادي بطلان الحكم، تعويضه وإعادة كافة الإجراءات من أولها. وفي هذا ضمانة هامة للمتهمين لكي يتم محاكمتهم من قبل قضاة شاركوا في تفحص الأدلة وكونوا اقتناعهم من خلالها( ).
ولا يعتبر التزام القضاة بالحجج المعروضة عليهم التزاما مطلوق على عواهنه بل ترد عليه قيود تحد من مداه، فالوسائل التي يجب أن تعتبر حجة يأخذ بها القاضي ينبغي أن تكون موافقة لدرجة الرقي الأخلاقي وحقيقية ليست بواهية. ومن بين أهم الحجج التي تأخذ بها المحكمة، هناك المحاضر وشهادة الشهود واعتراف المتهم، إلا أن القاضي أحيانا لا يقتصر على مجرد هذا بل يأمر بإجراء خبرة للتأكد من مسألة خارج اختصاصه، فما هي إذن القوة الإلزامية لكل حجة من الحجج؟
أولا: المحاضر
ثانيا: شهادة الشهود
ثالثا: الاعتراف
رابعا: الخبرة
أولا: المحاضر
تعتبر المحاضر بصفة عامة سواء التي يتولى القيام بها ضابط الشرطة القضائية أو قاضي التحقيق، قيمة إثباتية لا غنى عنها في جميع مراحل الدعوى العمومية والمشرع المغربي لم يقم بتعريف المحضر تاركا المجال للاجتهاد الفقهي، وعموما يمكن القول أن المحضر هو وثيقة رسمية صادرة من جهات مختصة قانونا بتحريره ويتم تضمينه ما عاينه أو تلقوه من الأشخاص الذين تم الاستماع إليهم( ) وليست هناك حالة وحيدة أو معينة يتم على إثرها تحرير محضر وإنما يتم ذلك كلما استدعى الأمر إثبات الواقعة، على أنه يجب التمييز ين المحضر والتقرير وألا نقع في الغلط الفادح الذي وقع فيه واضعوا المسطرة الجنائية، حيث أن المحضر هو مؤسسة قانونية تستعمل قضائيا لإثبات وقائع معينة، ولا يمكن إضفاء صفة محضر إلا إذا حرر من طرف ضابط عكس التقرير والذي يمكن للعون أو المقدم تحريره ويعتبر مجرد إجراء إداري لا قيمة قضائية له ولا يرقى بناء عليه إلى مرتبة المحضر وذلك لأن هذا الأخير قد يستعمل لإدانة متهم، لهذا يجب احترامه مجموعة من الأمور وإحاطته بمجموعة من الضمانات لعدم هدمه قرينة البراءة.
ويمكن تقسيم المحاضر من حيث القوة الإثباتية إلى ثلاثة أنواع: المحاضر المحررة بخصوص الجنح والمخالفات ونصت عليها المادة 290 «المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت في الجنح والمخالفات يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات» وهذه المحاضر تعتبر دليل إثبات لإدانة المتهم ما لم يتم إثبات ما يخالف ما جاءت به اعتمادا على مبدأ حرية الإثبات في المادة الجنائية.
النوع الثاني من المحاضر وهو ما نصت عليه المادة 291 من ق م ج «لا يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر والتقارير إلا مجرد بيانات» ويتعلق الأمر بالمحاضر المرتبطة بالجنايات وتعتبر الأضعف من ناحية الإثبات بين المحاضر، فغرفة الجنايات تستأنس بها وتستعين بما ورد فيها من وقائع ولكن لا تعتبرها وحدها وسيلة إثبات كافية لإصدار الحكم بالإدانة، ويمكن للقاضي استبعادها لأنها تدخل ضمن القرائن البسيطة. جاء في قرار المجلس الأعلى وحيث نقض حكم أدان المتهم بجناية بناء على اعترافه المسجل بمحضر الضابطة القضائية «ولئن كانت المحكمة صرحت في حكمها المطعون فيه أن الاعتراف لدى الضابطة القضائية وإن كان مجرد بيان فإنها قد اقتنعت بما جاء فيه( )» ولا ندري ما هي تداعيات التفرقة في القوة الإثباتية بين المحاضر المحررة في الجنح والمخالفات وتلك المقررة في الجنايات لأن هذه الأخيرة هي الأكثر خطورة من الأولى أم لأن العقوبة المقررة لها أشد، علما أن المحاضر جميعها محررة من طرف الضابطة القضائية ومعروف كيفية تحريرها فلا داعي للتذكير والإشارة مجددا بمستوى التكوين القانوني لضباط الشرطة القضائية الضعيف إن لم نقل المنعدم مما يستدعي معه الأمر التغاضي عن تلك المحاضر، لتعارضها مع المبادئ والأهداف التي ترتكز عليها المسـطرة الجـنائية وانعكـاسها بالتبعـية مع أهـم وأول مبدأ جـاء به ق م ج.
هذا ولا ننسى أن مفهوم العقوبة ومخلفاتها في نفسية الشخص هي واحدة، فمجرد الحكم عليه بالسجن ولو لمدة بسيطة سيترتب عليه اضطراب مادي ونفسي، إضافة إلى نظرة المجتمع له على أنه مجرم له سوابق، لذا لا داعي لذلك التمييز خصوصا وأن الهدف من العقاب هو محاربة الجريمة والمجرمين وتحقيق العدالة وليس اتهام أكبر عدد من الناس، لذا يجب اعتبار جميع المحاضر بما تتضمنه مجرد معلومات وبالتالي تجريدها من قوتها الإثباتية وعدم إلزام القضاة بالأخذ بها كحجة للإدانة.
وبما أننا وكما سبق الذكر نطمح في المساواة بين قوة المحاضر في مجال الجنايات والجنح والمخالفات واعتبارها مجرد بيانات غير إلزامية على أساس أنهما يخلفان نفس النتائج. فإننا بداهة نناشد المشرع بإلغاء النوع الثالث من المحاضر وهي الغير قابلة للطعن إلا بالزور لتعارضها الواضح مع مبدأ قرينة البراءة المفترضة في كل متهم وأيضا مع مبدأ حرية الإثبات، والحال أن تقديم هذا الأخير للمحكمة بمحضر يوثق لمضمونه ولا يمكن الطعن فيه إلا بالزور، يعني أن المتهم مدان وأنه تم إهدار قرينة البراءة علاوة على ذلك فإن هذه المحاضر حقا تعطي الانطباع بأن من يتولى عملية إدانة المتهم بالفعل هو محرر المحضر أما القضاة فإنهم يصادقون عليها( ).
ثانيا: شهادة الشهود
نصت المادة 296 من ق م ج «تقام الحجة بشهادة الشهود وفقا لمقتضيات المادة 325 وما يليها إلى غاية المادة 346 من هذا القانون» ويمكن تعريف الشهادة بأنها تقرير يصدر عن شخص في شأن واقعة معينة يدلي بما رآه أو سمعه. والشهادة لها دور هام بين وسائل الإثبات الجنائية التي يستعين بها القاضي في تأسيس حكمه سواء بالإدانة أو البراءة متى أبدى ارتياحه لها، على أن الشهادة المأخوذ بها هي التي تتوفر على مجموعة من الشروط كأن يكون الشاهد بالغا سن الرشد وغير محروم من أدائها، وأحسن المشرع عندما نص في المادة 330 على أن يستفسر الرئيس الشاهد عما إذا كانت تربطه والمتهم عداوة أو خصومة خوفا من أن يستغل وضعه كشاهد ويحرف الشهادة ويحاول الإضرار بالمتهم وإبعاد العدالة عن الحقيقة وحيث أن شهادة هؤلاء لا تأخذ بعين الاعتبار وإنما تعتبر مجرد تصريحات أو معلومات خدمة من المشرع لمقتضيات المادة الأولى.
والشهادة التي تعتبر وسيلة إثبات قانونية هي التي يتم أداؤها أمام القضاء سواء قاضي التحقيق أو هيئة الحكم بعد أداء اليمين القانوني. أما ما يدلي به أمام ضابط الشرطة القضائية وأمام النيابة العامة لا يكتسب تلك الصفة ويكفي ما سبق وأشرنا إليه في هذا المجال تفاديا للتكرار. على أن الملاحظ في المحاكم اعتمادها على تصريحات الشهود في محضر البحث التمهيدي دون أن تستدعيهم المحكمة لأداء الشهادة أمامها. وحيث إن شهادة الشهود لدى الدرك الملكي مدونة بمحضرها وللمحكمة أن تعمل بما جاء في محضر الضابطة القضائية متى اطمأنت إليه( )». وكيف للمجلس الأعلى أن يعتمد هذا الاتجاه المتضارب، فنصوص المسطرة الجنائية نفسها تنص على بطلان شهادة الشاهد الذي لم يؤدي اليمين أمام المحكمة فكيف يسمح ببناء الحكم بالإدانة على شهادة أديت خارج المحكمة وبدون يمين، ففي هذا التصرف إهدار لضمانات المتهم لاعتماد القضاة على شهادة غير مشروعة طالما تمت خارج نطاقها ناهيك عن أنها أديت أمام الضابطة إن لم تكن قد انتزعت أو لفقت للمتهم وبالتالي إحالته على جلسة الأحكام وهو متهم غير بريء بل مدان ويبقى للمحكمة فقط تقدير مدة العقوبة.
فهنا يجب التنبيه إلى خطورة شهادة الشهود على قرينة البراءة، فرغم أهميتها فقد كانت محل نقد ونظر خاصة وأن القضاء يجب أن ينظر إليها بعين من الحذر لأنها قد ترد أحيانا غير مطابقة للحقيقة سواء عن عمد أو عن خطأ، فهي إذن طريقة إثبات ضرورية، لكنها في الوقت نفسه طريقة ضعيفة وخطيرة، كما نلاحظ أنها تعتمد في كثير من الأحيان على المجاملة لأحد أطراف الخصومة، كما أن الساحة القضائية تشهد وبكثرة حالات شراء الشهادة أي دفع مبالغ غير مشروعة لأداء شهادة زور لصاحب المصلحة…
إلا أنه مع ذلك لا يتصور عدم الاعتماد عليها بالرغم من كل ذلك، فالشهادة لها دورها الرئيسي في الإثبات الجنائي ويبقى لقاضي الموضوع الرأي الفاصل في تقدير قيمتها، فله تجزئة أقوال الشاهد كلما تراءى له ذلك، أو ترجيح أقوال بعض الشهود على البعض الآخر. وهنا يجب التمسك بالشهادة الأقرب للصواب والتي تروى من قبل أغلب الشهود في الوقت الذي نرى عكس ذلك، فلو تعدد شهود النفي مقابل شاهد واحد للإثبات يرجح القاضي شهادة هذا الأخير، في حين كان عليه ومسايرة منه لقرينة البراءة ترجيح شهادة شهود النفي.
وترجع القيمة الإثباتية للشهادة إلى السلطة التقديرية المطلقة للقاضي وحده، ولا يطالب عند استبعاده للشهادة بتعليل هذا الاستبعاد تعليلا خاصا وإنما يكتفي أن يعلن عن عدم اقتناعه بها( ). جاء في قرار للمجلس الأعلى «وحيث إنه من جهة أخرى فإن الأخذ بشهادة الشهود أو عدم الأخذ بها موكول إلى تقدير محكمة الموضوع التي لها أن تأخذ بها متى اطمأنت إليها أو لا تأخذ بها ولا يحتاج الأمر إلى تعليل خاص» وإذا كان تقدير القيمة الإثباتية لشهادة الشهود راجعا إلى قضاء الموضوع فنلاحظ أن قرارات المجلس الأعلى متضاربة فأحيانا يرى أن لا رقابة على القاضي في الأخذ بالشهادة أو استبعادها وبالتالي غير ملزم بالتعليل( ) «شهادة الشهود وتقدير قيمتها والأخذ بها وعدم الأخذ بها، كل ذلك موكول إلى الاقتناع الصميم لقضاة الزجر لا ينفع في ذلك لرقابة المجلس الأعلى».
وأحيانا أخرى يفرض عليه هذه الرقابة عن طريق إلزامه ببيان مضمون الشهادة وتعليل أسباب استبعادها أو الأخذ بها، جاء في قرار للمجلس الأعلى( ) «أن محكمة الاستئناف قد استبعدت شهادة شهود ولم تقتنع بهم بالرغم من معاينتهم للحادثة (حادثة سير) دون بيان العلة التي اعتمدتها في إبعادهم وعدم اقتناعها بتصريحهم، الشيء الذي يكون معه القرار ناقص التعليل الموازي لانعدامه مما يستوجب نقضه».
في الوقت الذي كان على المجلس الأعلى الاتجاه دائما إلى تعليل الحكم في الأخذ بالشهادة، أي الاتجاه الثاني سواء من الناحية الواقعية أو القانونية لتقييد حرية القضاة وبالتالي سلطتهم التحكمية وبالنتيجة عدم الإضرار بالمتهمين..
ثالثا: الاعتراف
وهو إقرار المتهم على نفسه بارتكاب الجريمة أو بمشاركته فيها بطريقة صريحة واختيارية، دون أن يتعرض للاستفزاز أو ضغوط تحمله على الاعتراف على نفسه( ). وقد يصدر عن المتهم إما أثناء المحاكمة وهو الاعتراف القضائي وإما في مرحلة البحث التمهيدي أو التحقيق الإعدادي أو خارج إجراءات المتابعة كالإدلاء به أمام موظف أو شهود ويسمى بالاعتراف غير القضائي.
وتختلف القيمة الإثباتية لكل منهما حيث يعتبر هذا الأخير أدنى مرتبة في الإثبات لافتقاد مناقشة المتهم له للتأكد من مدى صحته، ونتساءل ما الفرق بينهما وفي حالة تعارضهما ما هو الاعتراف الواجب الأخذ به من قبل القاضي؟
بالنسبة للفرق بين الاعتراف القضائي والاعتراف غير القضائي، هو أن هذا الأخير يكون مشكوكا في صحته وفي كيفية انتزاعه تحت ظروف معينة ولربما لم يصدر عنه بالمرة وهو لا يلزم القاضي بشيء لعدم الإضرار بالمتهم، اللهم إذا ما أعيد ذلك الاعتراف منه اختياريا أمام المحكمة، فهنا يكون القاضي أمام اعتراف المتهم على نفسه في جميع مراحل الدعوى.
أما الاعتراف الصادر مباشرة أمام القاضي فمبدئيا يكون صحيحا ويأخذ به طالما كان ملما بجميع ماديات الجريمة ودون أن يكون للقاضي يدا في ذلك الاعتراف، كالإكثار من الأسئلة وتنويع عباراتها فينجم عن ذلك مغالطة أو عدم انتباه يؤدي بالمتهم إلى الإدلاء بأقوال لم يكن يقصد النطق بها لولا ذكاء القاضي وأسلوبه ولكي يكون الاعتراف اختياريا كذلك يجب أن يصدر من المتهم من غير تعريضه لوسائل ضغط معنوية كالتكرار المبالغ فيه للاستنطاق، كما يرى الرأي السائد في الفقه الجنائي تحريم الأساليب التي تفقد المتهم السيطرة على إرادته الواعية مثل التخدير والتنويم المغناطيسي. وفي حالة التعارض في الاعتراف بين المرحلتين وذلك بأن أكد المتهم عدم ارتكابه الفعل المتابع من أجله أمام القاضي في الوقت الذي تنص فيه المحاضر على أنه اعترف على نفسه تلقائيا، فهنا القاضي ملزم دون أي تفكير في استبعاد الاعتراف المتضمن في المحاضر تعزيزا منه لقرينة البراءة المفترضة في المتهم، إلا أن الواقع العملي في المحاكم هو اعتمادها بالفعل على الاعترافات المتضمنة في محاضر الضابطة القضائية وغير مبالية بإنكار المتهم أمامها.
وعموما، فإن فحوى الإعتراف المضمن في أي محضر إنما يخضع لتقدير محكمة الموضوع. والتي لا تخضع في هذا الشأن لرقابة المجلس الأعلى، وهكذا يكون قضاة الموضوع عندما صرحوا بأن اعتراف الضنين كان تحت الإكراه، فقد استعملوا سلطتهم التقديرية في هذا الشأن( ).
وبالعودة لقضية كامبو وتتمة لما جاء في أحداثها… ولم يكن الدليل الضرفي المقدم للمحكمة كافيا لاتهام الخباز، ولكن بالرغم من ذلك فإن القاضي كامبو أصر بأن تتخذ ضد المتهم كل الوسائل العادية والغير العادية لحمله على الاعتراف وتحت تأثير التعذيب اعترف الخباز بارتكابه تلك الجريمة واعتبر هذا كافيا لإقناع القاضي والحكم عليه بالإعدام.
ومن هنا يتبين الدور السلبي للاعتراف ودحضه قرينة البراءة باعتماده كوسيلة للإدانة؛ لأن المنطق السليم لا يعقل أن يعترف الشخص على نفسه خصوصا أمام الضابطة القضائية لأن الكل أصبح اليوم يعلم كيفية انتزاعه بحيث يجد المتهم من اعترافه وسيلة للإفلات من التعذيب الذي قد يفضي بحياته فيبقى دائما على القاضي عدم استعماله كحجة لإدانة المتهم لأن سلطته التقديرية لا تخوله أن يرتقي بهذه القرينة البسيطة إلى درجة الوسيلة القانونية للإثبات فيعتمدها وحدها للإدانة.
رابعا: الخبرة
أحيانا يتطلب القضاء للفصل في دعوى ما، الكشف عن بعض الوقائع استنادا على خبرة فنية أو طبية لا يمكن للقاضي النظر فيها لعدم تخصصه كالمسائل المتعلقة بالطب والهندسة، التحليلات الكيماوية… والقاضي قد يجد نفسه مضطرا إلى الاستعانة بهذه الخبرة إما بصفة تلقائية عندما تعرض عليه واقعة يتعذر عليه البث فيها فيضطر الاستعانة بالخبرة مخافة الإضرار بالمتهم، وقد تتحقق بطلب من أحد المترافعين وحيث يعتبر من الناحية القانونية من وسائل الدفاع الذي يحرص القانون على ضمانها لهم. وبناءا عليه لا يمكن للقاضي التنصل من إجراءها ورفضها، اللهم إذا رأى أن الوقائع المطلوب إجراء خبرة فيها واضحة لديه ولا تستدعي ذلك. وقد اختلفت آراء المجلس الأعلى بخصوص تعليل قرار الرفض، فقد ذهبت بعض قراراته إلى أن السكوت وعدم الجواب عن طلب إجراء خبرة يعيب الحكم ويجعله معرضا للنقض، كذلك الحكم الرافض دون تعليل كاف حيث جاء في إحدى قراراته( ) «يتعرض للنقض الحكم حين رفض طلب إجراء خبرة اختصر في التعليل على أنه لا داعي لإجراء خبرة مرة ثالثة لعدم وجود ما يبررها دون بيان الأساس الذي استخلصت منه المحكمة انعدام تبرير إعادة الخبرة لذا يكون معه القرار ناقص التعليل».
في حين جاء في قرارات أخرى أن للمحكمة أن تقتصر على الرفض الضمني لطلب الخبرة «وحيث أن الخبرة ليست هي المقصودة بالذات وإنما لا تقضي ولا تبرم وإنما هي وسيلة من وسائل الإثبات تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا يمكن مناقشتها»( ). ولا يمكن تحت أي ظرف إنكار الدور الذي يلعبه إجراء الخبرة في الساحة القضائية وخدمتها لمفهوم قرينة البراءة، فكم من متهم لولا إجراء خبرة أو فحص على دمه لأدين بجرائم لم يرتكبها، ونلاحظ أن المشرع اعترافا منه بالأهمية البالغة التي تكتسبها عملية إجراء الخبرة فقد أقر للنيابة العامة بإمكانية الطعن في جميع الأوامر الصادرة عن قاضي التحقيق إلا الأمر بإجراء خبرة فقد أقصاه. لكن نلاحظ أنه من الناحية الواقعية نجد أن هذا الإجراء لا يطبق إلا نادرا وحيث أن إجراء خبرة قلما يتم في الملفات المعروضة على القضاء.
ومن جهتنا فقد عاينا نازلة تضاربت فيها أقوال الشهود والتزم القاضي موقف سلبي، حيث كان بإمكانه إجراء معاينة تثبت له صحة أقوال هذا أو ذاك، علما أن القاضي قام بالاستناد في حكمه على هذه الشهادة، ولو أنه قام بإجراء معاينة لكان من السهل عليه معرفة القول الصحيح، وهذا ما يبين عمليا إغفال هذا الإجراء مع أهميته وتأثيره على قرينة البراءة.
ختاما وبعد استعراض أهم وسائل الإثبات التي تعرض على القاضي والتي لها مساس مباشر بقرينة البراءة، وبالتالي انعكاسها على أهم طرف في الدعوى الجنائية وهو المتهم وإن شددنا على أن القاضي ملزم بالحجج المعروضة عليه مبدئيا وعدم تجاوزها عبتا فيبقى له كامل الصلاحية عمليا في تقدير قيمه، ما يعرض عليه من وسائل الإثبات حسب ما يخدم مصالح المتهم لأنه الطرف الضعيف في الدعوى وعدم الإضرار به وبحقوقه المعترف بها له أثناء محاكمته.
الفقرة الثالثة: احترام ضمانات المتهم
إذا كانت الضمانات التي يجب أن تتوفر في مرحلتي ما قبل المحاكمة وتنفيذ العقوبة تكتسي أهمية بالغة، فإن الضمانات التي يجب أن تتوفر في مرحلة المحاكمة وأثناء مثول المعنيين بالأمر أمام القضاء الجنائي لا تقل أهمية عن المرحلتين السابقتين، ومن هنا كان للضمانات التي يجب توفرها خلالها اعتبارها القانوني والإنساني، وفيها يشعر القاضي بأن المتهم الماثل أمامه لا يعدو أن يكون إنسانا يتمتع بكل ما يجب أن يتمتع به غيره من الناس في حدود القانون ووفق ما تضمنته القوانين الإجرائية. ومن بين أولى الضمانات التي تتساوى فيها جميع المحاكم مساواة المتهمين أمام القضاء وعدم التفرقة بينهم لأن كل ماثل أمام القضاء يعتبر متهم ويضمن له محاكمة عادلة وشرعية، ويعتبر بريء إلى أن تثبت إدانته من قبل محكمة مختصة ومستقلة( ) ومنشأة بحكم القانون، ومن ضماناته كذلك عدم تعريضه لخطر العقاب عن الفعل الواحد أكثر من مرة، فمتى حكم على شخص نهائيا بالإدانة أو البراءة طبقا للقانون فلا يجوز محاكمته ثانية عن نفس الفعل ولو تحت وصف آخر إلا إذا ظهرت أدلة جديدة.
وفي إطار دائما الضمانات المخولة له أثناء إجراءات المحاكمة هناك مبدأ علنية الجلسات، وقد نصت المادة 200 من ق م ج «يجب تحت طائلة البطلان أن تتم إجراءات البحث والمناقشة في جلسة علنية» ضمانا أكثر للمتهم بجعل الرأي العام يتتبع كيفية سير المحاكمة وهو ما ينجم عنه التزام أكثر للقضاة في احترام جميع حقوق المتهمين على أنه استثناءا من مبدأ العلنية قد يأمر رئيس الجلسة في سبيل المحافظة على الأمن والأخلاق إجراء جلسة سرية استنادا للمادة 302 كما نجد شفوية إجراءات المحاكمة، على أن الضمانات التي يجب احترامها والإخلال بها يجب أن يؤدي إلى بطلان المحاكمة وهي حق المتهم في مؤازرة من قبل محامي لأنه لا يكون قادرا على مواجهة إجراءات المحاكمة بمفرده إما لعدم تخصصه أو جهله أو لأن خطورة الاتهام وموضعه كمتهم تفسد عليه ملكاته ولا يستطيع التركيز في متابعة دفاعه، الأمر الذي أوجب معه ضرورة استعانة المتهم بمحامي ولا يمكن للقاضي حرمان المتهم تحت أي ظرف من ذلك على عكس ما هو عليه الأمر بالنسبة لوضعية المتهم أثناء مرحلة البحث التمهيدي حيث يحرم من أي مؤازرة.
كذلك من بين الالتزامات التي تقع على عاتق القضاة والتي تعتبر من ضمانات المتهم أثناء المحاكمة حقه في أن يوفر له مترجم إذا لم يكن قادرا على فهم اللغة المستعملة، ومن حقه أيضا مناقشة شهود الاتهام والاستماع لشهود النفي فلكل منهم الحق في أن يستجوب بنفسه أو بواسطة محاميه شهود خصمه وأن يضمن حضور شهوده واستجوابهم تحت نفس شروط استجواب خصمه( ). فالمحكمة بعد استماعها لشهادة الشهود هي ملزمة بفتح المجال أمام المتهم أو دفاعه لمناقشة تلك الشهادة.
وهناك ضمانة في غاية الخطورة تمس جوهر قرينة البراءة وتتمثل في تقديم المتهم للمحاكمة وهو غير مقيد الأيدي بالحديد، حيث إن المبدأ العام لقرينة البراءة يقضي بتمتيع المتهم بكل امتيازات تحمي إنسانيته وتصون كرامته وحريته الشخصية، لذا نلاحظ أنه عندما يحال المتهم ويتم تقديمه في جلسة الأحكام أمام القاضي يجب أن يكون في حالة سراح وغير مكبل بسلاسل احتراما لآدميته، وتطبيقا لمبدأ المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته. لكن نتساءل أهاذا تطبيقا واحتراما لضمانات المتهم أم احتراما للقاضي؟
الواقع العملي يقودنا للقول أنه احتراما للقاضي وليس للمتهم بالمرة، لأنه يكون مقيدا منذ بداية اعتقاله ولا تنفك قيوده إلا في الثواني الأخيرة قبل دخوله جلسة الأحكام ناهيك عن المعاملة الوحشية التي يتعرض لها من ضرب وإهانات، فعن أي ضمانات نتحدث وأي تطبيق لقرينة البراءة !.
وللإشارة أنه في فترة الوضع تحت الحراسة النظرية في مخافر الشرطة القضائية، يتعمد هؤلاء استخفافا وإهانة بالمتهمين من إجبارهم على ارتداء ملابس مقلوبة وتعريضهم لأنواع من التعذيبات لا يمكن قبولها حتى للمتهم المحكوم عليه، فكيف الحال وأنه في تلك المرحلة مازال لم يصدر بعد حكم بإدانته ويتمتع بحقه في البراءة.
هذا، فحتى عندما يحال المتهم على القاضي وهو غير مقيد فإنه يقف في مكان يرجع إلى عهد الرومان عند اكتشاف لأول مرة النظام التنقيبي، وكان قد وضع بالأساس للعبيد ويطلق عليه قفص الاتهام، فكيف يعقل أن تظل مخلفات تلك الفترة بارزة وبشدة للآن في كل المحاكم المغربية. لذا يجب على المسؤولين التدخل وبسرعة لإزالة تلك الأقفاص لأنها مساس بقرينة البراءة والحال ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين واقتضاء بأغلب النظم كالنظام الأمريكي أو النظام الفرنسي أن تتم محاكمة المتهمين وهم جالسين بجانب محاميهم وهم مرتدي لباسهم الرسمي…
هذا ولفت انتباهنا مؤخرا ظاهرة في غاية الخطورة على قرينة البراءة، بل وملغية لها تماما، تعبر عن تواضع تفكير البلاد وجهل القائمين بتطبيق القانون بنصوص المسطرة الجنائية أو تلاعبهم بها والعمل بما يفيد فقط تطلعاتهم وتتمثل في إجبار المتهم على تمثيل الجريمة المتابع بشأنها بكل دقة، وما يزيد الطين بلة أنه لا يقوم بذلك فقد أمام الضابطة ووكيل (العام) للملك، بل يجبر على تمثيلها أمام الرأي العام وتتداولها جميع الوسائل المرئية والمسموعة ويصبح ذلك المتهم المفترض أنه بريء إلى أن تثبت إدانته بحكم نهائي من قبل المحكمة، مدان قطعا أمام الجميع قبل محاكمته.
حيث أن تمثيل الجريمة يدين المتهم قبل عرضه على المحكمة فتنوب السلطة التي ألزمته على القيام بذلك بتحديد إدانته نهائيا لتحيله على المحكمة لتحديد فقد مدة عقوبته لأنها من خلال قراءتها لنصوص م ج اكتشفت أن المشرع لم يمنحها سلطة تحديد العقوبة ولكن مقابل، ذلك منحها سلطة إصدار حكمها بالإدانة ولا نفهم كيف ذلك فيجب إعادة التكوين العلمي والقانوني لهم.
وغير بعيد عنا جريمة سيدي قاسم التي أثارت الرأي العام، وحين أجبرت طبعا المتهمة على إعادة تمثيل كيفية ارتكابها جريمة قتل في حق طفل صغير في الوقت الذي تنص عليه مقتضيات المادة 15 من ق م ج على أن المسطرة التي تجري أثناء البحث والتحقيق يجب أن تكون سرية وأن كل شخص ساهم في إجراء هذه المسطرة هو ملزم بكتمان السر المهني ضمن الشروط وتحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي. بالإضافة للمادة 105 والتي تنص على أن «كل إبلاغ أو إفشاء لوثيقة وقع الحصول عليها من تفتيش يتم لفائدة شخص ليست له صلاحية قانونية للاطلاع عليها دون الحصول على موافقة المشتبه عنه أو ذي حقوقه أو الموقع على الوثيقة أو من وجهت إليه، وكل استعمال آخر لهذه الوثيقة يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة من 5000 إلى 30.000 درهم».
فهاذين النصين كفيلين على البرهنة على سرية إجراءات التحقيق وبالنتيجة عدم مشروعية تمثيل الجريمة، فالمشرع لم ينص عليها عبثا أو لألا تحترم وإنما كانت لها اعتباراتها. فهذا التمثيل يهدر جميع الحقوق والضمانات المخولة للمتهم دستوريا- قانونيا ودوليا في جميع مراحل الدعوى وبالتالي إهدار قرينة البراءة المفترضة لغاية إصدار الحكم، فهنا سلطة المتابعة تولت بنفسها سلطة الحكم وسبق وأشرنا عدم أحقية أي جهة الجمع بين السلطتين. أيضا هناك المادة 303 من ق.م.ج. والتي تنص صراحة على معاقبة كل من يقوم بنشر تحقيق أو تعليق أو استطلاع للرأي العام يتعلق بشخص تجري في حقه مسطرة قضائية بصفته متهما، فسلطة التحقيق لم تستطع استيعاب هذه النصوص والكف عن هذا الإجراء ليس هي فقط، بل أيضا الصحافة، هنا يجب على وزير العدل القيام بخطوة إيجابية متمثلة في تحريك المتابعة الجنائية ضد الوسائل المكتوبة للتخلص هي بدورها من تأكيد التهمة على المتهمين، فلا يخفى على الجميع جرائم أكادير، تارودانت كذلك مراكش وحيث أن المتهم لتتخلص من تعسفات سلطة التحقيق فصل تمثيل الجريمة، وحيث أن المحكمة حكمت عليه بالإعدام وبعد مرور 20 سنة من السجن ظهر المتهم الحقيقي الذي ارتكب الفعل واعترف شخصيا وبكل حرية بأنه هو المذنب الحقيقي مما ترتب معه الإفراج عن الشخص الأول.
فهذه الحالة تغني عن أي تعليق زائد، لقد كفا ما يجب أن يقال ويبقى على السلط الانتباه أكثر لنصوص القانون وعدم إغفالها لقرينة البراءة فإن كان التمثيل يفيد في بعض الجرائم لاستكمال التحقيق فيجب بدوره إخضاعه للسرية وعدم تعميمه على جميع الجرائم.
____________________________
– “محاضرة في الإثبات الجنائي” لمبروك نصر الدين رقم العدد 1032 ، ص58 و59.
وللتعمق في الموضوع، اللواء محمد عبد الرحيم والعقيد حسن إبراهيم والرائد مصطفى رفعت والأستاذ رياض داوود: “التحقيق الجنائي العلمي والفني”، الناشر دار الطباعة القومية، ط. 2، 1969، ص18.
– الغرفة الجنائية للمجلس الأعلى، قرار عدد 49 مجلة قضاة المجلس الأعلى، ص96، عدد 20.
– “إن تشكيل هيئة الحكم يعتبر من النظام العام وللمجلس الأعلى إثارته تلقائيا، إذا كان الحكم المطعون فيه لا يوجد ما يدل على أن الهيئة التي أصدرته هي نفسها الهيئة التي ناقشت القضية ويتعرض الحكم بسبب ذلك للنقض” قرار المجلس الأعلى، عدد 299 (20 يناير 1972) قرارات المجلس الأعلى، ص656.
– ذ. محمد أحداف: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد”، الجزء الأول،الطبعة الثانية، 2003م، مكناس، م.س، ص466.
– قرار المجلس الأعلى عدد 155 تاريخ 5 فبراير 1976 –مجموع قرارات المجلس الأعلى.
– ذ. محمد أحداف: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد”، ج. 1،م. س. “المحاضر التي لا يمكن إثبات ما يخالفها إلا عن طريق دعوى الزور”، ص474.
– قرار للمجلس الأعلى، عدد 6714 تاريخ 2-10-1986 ملف 19 /9923/86.
– قرار المجلس الأعلى عدد 198 تاريخ 10-2/1977، ملف رقم 37076 . “شرح قانون المسطرة الجنائية”. ذ. أحمد الحمليسي، ج. 2، ص142.
– قرار المجلس الأعلى عدد 1651 تاريخ 11 دبسمبر 1975، ملف 20489 م، س. ص144.
– قرار المجلس الأعلى عدد 244 بتاريخ 9-1-1986. ملف رقم 2910/84 ، م، س. ص146.
– من توصيات المؤتمر العربي الثامن للدفاع الإجتماعي ضد الجريمة 14-16 دجنبر 1977، حظر إكراه المتهم والضغط والتأثير عليه وسيلة مادية أو معنوية للإعتراف بالجريمة.
– قرار المجلس الأعلى عدد 691 تاريخ 24 يونيو 1971، قضية 31065 مجموع قرارات المجلس الأعلى 1966-1982.
– قرار عدد 5695 تاريخ 17-7-1986 قضية 65883 . ذ. أحمد خمليشي: شرح ق م ج، المحاكمة طرف الطعن، ص151.
– قرار المجلس الأعلى عدد 4963 تاريخ 29-5-1984 ق م ع. عدد 38، ص245.
– حين نصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية على أنه “لكل فرد الحق عند النظر في أية تهمة جنائية ضده أو في حقوقه أو التزاماته في إحدى القضايا القانونية في محاكمة عادلة وبواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية وقائمة استنادا على القانون”.
– المادة 14/3 من الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية وأيضا المادة 2/3 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.
الفقرة الأولى: مجال التحقيق الإعدادي
إن التحقيق الإعدادي مرحلة من مراحل القضية الجنائية تتوسط البحث التمهيدي الذي تباشره الشرطة القضائية والتحقيق النهائي الذي تباشره المحكمة في الجلسة( ) وحسب رأي الفقه والقضاء تعد هذه المرحلة دعامة أساسية لحقوق الإنسان وركيزة مهمة وأساسية في تحقيق العدالة الجنائية القائمة على قرينة البراءة.
والمناوئة لكل الانتقادات الموجهة للنيابة العامة، ويعد التحقيق الإعدادي كذلك مجموعة من التحريات تستهدف استكمال المعلومات وجمع الحجج التي تكون في صالح المتابع أو ضده من طرف سلطة قضائية مختصة يحق لها في نهاية الأمر أن تقرر ما إذا كان مناسبا أو غير مناسب إحالة القضية على المحكمة.
وعليه فإن قاضي التحقيق قد أسندت إليه مهمة مزدوجة تتمثل من جهة أولى ي جمع الأدلة المتعلق بالجريمة التي توبع من أجلها الضنين ومن جهة ثانية في تقدير قيمة تلك الأدلة لمعرفة ما إذا كانت كافية أو غير كافية للاستمرار في المتابعة( ).
فإذا كان المشرع قد تبنى مؤسسة قاضي التحقيق في قانون المسطرة الجنائية الجديدة مع إجراء تغير في الوعاء الذي يشمل التحقيق الإعدادي بحيث بموجب قانون المقتضيات الانتقالية أصبح إلزاميا فقط في الجنايات والمعاقب عليها بالإعدام أو بالسجن المؤبد (المادة 7 من ظهير المقتضيات الانتقالية) وفي الجنايات التي يتم ارتكابها من طرف الأحداث وكذلك التحقيق في الجنح بنص خاص، اما إمكانية التحقيق في المخالفات فقد تم إسقاطها بل فقد تم إعفائها من التحقيق الإعدادي بالمرة. بالإضافة إلى الجنح التي تقل عقوبتها عن خمس سنوات.
الفقرة الثانية: سلطات قاضي التحقيق
باعتبار أن النيابة العامة الابن البار للسلطة التنفيذية تأتمر بأوامرها وتنفد التزاماتها، قد أسند لها المشرع مهمة وضع وصياغة قانون المسطرة الجنائية، وهذا ما جعلنا تبالغ نوعا ما في حماية نفسها من كل ما يضيق من نطاق سلطتها في المرحلة ما قبل المحاكمة أي مرحلة الاتهام عن طريق تمتيع نفسها بحصانة مهمة جدا، تتمثل هذه الضمانات في عدم قابلية هذا الجهاز بالإبعاد من القضية سواء أمام التحقيق الإعدادي الذي أسندت مهامه لقاضي التحقيق أو أمام المحكمة، وهذا ما يزيد من بؤس وضعية قاضي التحقيق في ممارسة السلطات المخول له للنهوض بأعباء التحقيق الإعدادي لما ينفع مبدأ تأسيسه، والمتمثل في تعميق البحث لإظهار الحقيقة التي تعتبر أحد أهم الضمانات التي يتمتع بها المتهم في تأسيس برائته وفقا لمبدأ قرينة البراءة.
وهذا لن يتأتى إلا عن طريق دراسة المسطرة المتبعة من طرف قاضي التحقيق للنهوض بأعباء التحقيق الإعدادي والمتمثلة في:
أولا: استنطاق المتهم
ثانيا: الاستماع للشهود
ثالثا: التنقل وتفتيش والحجز
أولا: استنطاق المتهم
يعتبر المتهم هو الحلقة الأساسية في مسلسل التحقيق الإعدادي، ولهذا فأول ما يبدأ به قاضي التحقيق عادة إذا كانت هويته الضنين معروفة هو الشروع في استنطاقه استنادا إلى مقتضيات المادة 134 ق م ج، بناء على الأهداف التي يسعى التحقيق التوصل إليها، وخاصة الوصول إلى الحقيقة التي تعتبر استنطاق المتهم من ضمن أهم الإجراءات على الإطلاق، ولكون هذا الإجراء على درجة قصوى من الأهمية، فإن الإشكال الذي يطرح بخصوص هذا الموضوع يتمثل في المفهوم الذي يعتمد عليه قاضي التحقيق في التعامل مع الضنين، هل هو مفهوم اتهامي مسايرا بذلك نهج سياسة النيابة العامة المتمثلة في تدعيم خطورة المتهم واعتباره عدوا لها يجب التصدي له، أو الاعتماد على أهم مبدأ أسست عليه المسطرة الجنائية( ) القائمة على ترسيخ المحاكمة العادلة والقائمة أيضا على أساس أن أصل الإنسان البراءة، ومبنى قرينة البراءة أن المتهم وهو برىء بإثبات تلك البراءة وإنما على من يدعي خلاف ذلك الأصل هو البراءة أن يثبت تلك الإدانة وتلك هي أبسط قواعد الإثبات، وهذا ما سارت عليه محكمة النقض بالرباط حيث جاء في أحد قراراتها أن «الإثبات بمعناه القانوني هو إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون فهو قوام الحق الذي يتجرد من قوته ما لم يقم الدليل عليه»( ) ويقع عبء الإثبات الجنائي دائما على عاتق الاتهام وليس على المتهم أن يثبت براءته وبالتالي لا يمكن أن يتخذ من مجرد سكوت المتهم دليل ضده ولا يجبر على أن يدلي بما لا يريد قوله، فالبراءة المفترضة في المتهم تقتضي معاملة صاحبها بوصفه حر بريئا ولا يتفق البتة مع افتراض تلك البراءة تكليف المتهم عبء إثبات براءته وعلى من يدعى خلاف ذلك إثبات أنه غير بريء وأن الإدانة تتوافر في حقه( ).
وتجدر الإشارة إلى أن شكليات مسطرة الاستنطاق ليست على صنف واحد، بل إنها تختلف حسب ما إذا كان استنطاق المتهم يتم في إطار الاستنطاق الابتدائي أو الأولي أو ما يعرف باستنطاق المقابلة الأولى، أو حسب ما إذا كان هذا الاستنطاق يتم في إطار شكليات ومسطرة الاستنطاقات اللاحقة للاستنطاق الأولي والابتدائي وهي ما يعرف بمسطرة الاستنطاق التفصيلي.
بحيث يتميز الاستنطاق الأولي عن باقي الاستنطاقات التي يخضع لها المتهم لاحقا من طرف قاضي التحقيق في كونه أنه في إطار التحقيق الابتدائي يمثل المتهم، وذلك لأول مرة أمام قاضي التحقيق وذلك بصفته متهما عن الأفعال المرتكبة والتي بسببها تم فتح التحقيق الإعدادي بشأنها ونظرا للحس المرهف للمشرع في تقدير الوضعية النفسية للمتهم وهو لأول مرة يتمثل أمام القضاء وما يصيبه من ذعر وخوف قد يجعله يتلفظ بأشياء قد يحاسب من أجلها فيما بعد، فلذلك واستنادا لمقتضيات المادة 134 ق م ج فقد عمد المشرع على تحديد موضوع هذا الاستنطاق بشكل محكم. معتمدا بذلك على النهج السياسي أكثر ما هو مكسب حقوقي لصالح العدالة الجنائية، فالتأكد من هوية المتهم ومن تم إشعاره بحقه في الدفاع، وبعد ذلك إشعاره بالتهم المنسوبة إليه مع حقه في التزام الصمت، حقا صياغة قانونية بعيدة من كل تدليس أو غبن، إلا أنه ما معنى قيام قاضي التحقيق باستدعاء المتهم والشروع في استنطاقه ابتدائـيا كما نصـت المادة 134 ق م ج، ومن ضمن بنود هذه المادة حق الضنين في مؤازرة الدفاع فهل يعتقد المشرع بأن مقر المحاسب داخل المحكمة، فما على المتهم إلا ليصرح بإيجابه وحتى ولو صرح بذلك فما معنى حضور الدفاع بعد انتهاء المرحلة الأولى من التحقيق التي قد تكون هي الحاسمة في بناء قناعة القاضي، هل لأخذ أتعاب التعين أو التمتع بوجه المتهم.
بحيث لو كان المشرع رتب البطلان على كل مخالفة هذا الفصل أي الفصل 134، وكذا كل الإجراءات اللاحقة له فإن الواقع العملي المرير بين على حقيقة لا خلاف فيها وتتمثل في موقع الضعف الذي يكون فيه المتهم في إثبات هذه الخروقات، فلا يعتد قانونا بمجرد القول بعدم تمتيع المتهم بأحد الضمانات التي خولها لها الفصل 134 ق م ج.
ولهذا أقر الفقه يخلو هذا الفصل من أي ضمانة قانونية على أرض الواقع، وقد ساير هذا الاتجاه المجلس الأعلى بحيث لم يرتب البطلان على أي إجراء مخل بإحدى الضمانات المقررة للمتهم متناقدا في ذلك مع المحاكم الوطنية التي ترتب البطلان على كل خرق أو تجاهل لبند من بنود المادة 134 ق م ج..
ثانيا: الاستماع إلى الشهود
الشهادة وسيلة إثبات هامة وخطيرة في آن واحد، هامة لأنها أكثر وسائل الإثبات استعمالا في الميدان الجنائي وفي مختلف المراحل، وخطيرة لأنها تتطلب كثيرا من الحذر من طرف القاضي الذي يقدرها، لأن الشاهد كثيرا ما يكون متحيزا أو قد تخونه ذاكرته.
وعلى الرغم من الاحتياطات التي تتخذ من طرف القانون، فإن الشهادة يمكن أن تكون غير صادقة ومتأثرة بالتهديد أو الوعيد. وإذا كانت الشهادة لا تختلف من حيث طبيعتها فإن أحكامها ليست واحدة تبعا لما إذا كانت ستؤدى أمام قضاء التحقيق أو أمام النيابة العامة خاصة أن المشرع وزع أحكام الشهادة في أماكن مختلفة من المسطرة الجنائية، فإذا كانت هذه هي المميزات الأدبية والمنطقية والأخلاقية لمفهوم الشهادة والشاهد فإن الواقع العملي أبان عكس مفهومه، بحيث اعتبره وسيلة من وسائل التحايل على القانون بمفهومه الحق، ونقول هذا ونحن من بين المنادين بالتضييق في مجال الشهادة ومجالها في الدعوة العمومية واعتبارها وسيلة للاستئناس طالما أن المواطن أصبحت تنعدم فيه المصداقية وأصبحت عمليا وسيلة لمعاناة القضاة وأداة لتضليلهم، كما أن الواقع المرير للقضاء المغربي أفرز ظاهرة الشهادة بالأداء أو بالمقابل وهي على أية حال ظاهرة يعرفها كل الممارسين في حقل العدالة المغربية.
وتطبيقا لمقتضيات المادة 117 م ج والتي أرست الإطار العام الذي بموجبه تم تنظيم الشهادة والشهود، بحيث نصت على أنه يمكن لقاضي التحقيق استدعاء أي شخص يرى فائدة لسماع شهادته( ).
إلا أن الإشكال الذي يطرح، ما هي الصفة التي يتعامل بها قاضي التحقيق مع هذا الشخص أي الشاهد هل هو دعامة من أجل إظهار براءة المتهم أم أنه يتعامل معه نصفة مسطرية إما استنادا لما ضمن في ملتمس إجراء التحقيق أو قناعته الشخصية.
ويعتبر هذا المجال من ضمن المبادئ العامة التي يمكن اعتبارها بمثابة مبدأ عام يحتكم إليه قاضي التحقيق وذلك في نطاق الاستماع للشهود من أجل تدعيم براءة المتهم وتمتيعه بحقه في انتزاع صفة الضنين.
فعلى الرغم من أن الشاهد لا يتمتع بأية ضمانات أمام قاضي التحقيق وذلك على غرار المتهم، إلا أنه إذا كانت هناك شكوك تحوم حوله أو أدلة قد تصنع منه متهم، فقد أقر الفقه مبدأ عام في هذه الحالة ينص على تمتيع الشاهد بجميع الضمانات التي جاءت بها مسطرة الاستنطاق الأولي التي تنص على ضرورة تمتع المتهم بكل الضمانات المنصوص عليها في الفصل 134 ق م ج.
وبالنظر إلى مسطرة استدعاء الشهود نجد المشرع بالإضافة إلى توجيه الاستدعاء إلى الشاهدة من أجل المثول أمامه للإدلاء بشهادته، وقد أجاز في المقابل في حالة عدم استطاعة هذا الشاهد للمثول أمامه بسبب من الأسباب أن يعين من ينوب عليه للقيام بعملية أو مهمة الاستماع له، فقد تكون هذه الإنابة موجهة لضباط الشرطة القضائية بحيث يمكن لهم أن يسمعوا لشهادة الشاهد ومحتواها وتأويلها وإنجاز محضر بذلك قد يكون هو الضريبة القاضية أو النقطة التي تفيض كأس الاتهام على الرغم من الانتقادات الموجهة لهذه الهيئة من عدم خبرة أو كفاية قانونية لإسناد إليها هذا الأمر الذي يتحكم ويحدد مصير حرية الإنسان.
فإذا كان المشرع قد أجاز لقاضي التحقيق استدعاء من الشهود ما شاء من أجل فك لغز أو ألغاز قضية موضوع التحقيق استنادا إلى الفصل 117 ق م ج، فإنه في المقابل أورد استثناء على هذه القاعدة والمتمثلة في مسطرة استدعاء أعضاء الحكومة وذلك للإدلاء بأفواههم وشهادتهم أمام قاضي التحقيق. فهي تخضع لقواعد خاصة استثنائية عبر تلك المعمول بها في الأحوال العادية وذلك تطبيقا للمادة 133 م ج.
وهكذا يمكن القول على أنه يمنع على قاضي التحقيق وذلك تحت طائلة إثارة مسؤوليته القانونية والتي يمكن أن تترتب عن ذلك استدعاء كل الأشخاص المشمولين بسر المهنة –كالمحامين مثلا- والذين قد يكونوا عملوا بصفتهم هذه بوقائع أو معطيات قد تفيد التحقيق.
وإذا كانت الشهادة تؤدى شفاهيا فهل يكون ذلك عن طريق السؤال والجواب أو عن طريق تمكين الشاهد من الإدلاء بما يريد ودون تدخل أو مقاطعة؟ نظرا للانتقادات الموجهة لهذا الموضوع بحيث قد عبر فيها بعض الفقهاء بوصفها سيف ذو حدين، إما أن تكون أداة أو وسيلة لإظهار الحقيقة في تدعيم براءة المتهم أو أن تكون أداة لتضليل العدالة لما يخدم أطراف الدعوة، والتطبيق العملي يسير نحو الجمع بين الطريقتين بحيث يعمد القاضي إلى طلب من الشاهد أن يدلي بما عنده من معلومات ثم بعد ذلك يستفهم من نقطة أو أخرى. وعلى كل فالشهادة لا تنصب إلا على الوقائع التي رآها الشاهد أو سمعها بحيث لا يطلب منه وجهة نظره فيها، كما يجب أن لا يوحي إليه بأي شيء في الموضوع كإستجراره إلى جهة أو نقطة معينة.
فالشهادة أمام قاضي التحقيق لا تكون محلا للمناقشة وإنما يدعى الشاهد لإعادة قراءتها والتوقيع عليها إذا كان لازال مصرا عليها، وهذا يعتبر حيف وخرق لحقوق المتهم خصوصا إذا كانت هذه الشهادات هي مصدر إدانته بالأفعال المنسوب إليه، فقاضي التحقيق بصفته القائم على إظهار الحقيقة كان متوجب عليه إعادة استنطاق هؤلاء الشهود للوقوع على كل تناقض قد يقع فيه هذا الشاهد ما بين ما أدلى به في الشهادة الأولى أمام الضابطة القضائية والثانية أمام قاضي التحقيق، فاكتفاء القاضي بجرد ما قيل في المرحلة الأولى يعتبر شيء غير منطقي بالمرة، فقاضي التحقيق بصفته هذه يعتبر أحد الركائز الموجهة لإظهار الحقيقة وترسيخ العدالة الجنائية وتدعيم قرينة البراءة كأصل في المتهم دون التقيد بما جاء في ملتمس النيابة العامة وما توصلت إليه وإلا أصبحت مهامه إلا تحصيل حاصل.
ثالثا: التنقل والتفتيش
لا ينحصر مجال عمل قاضي التحقيق في مكتبه ولا يقتصر دوره على التحقيق فيما تنقله محاضر الضابطة القضائية، بل إن ميدانه أوسع من مكتبه ومهمته أعظم من التحقيق الابتدائي مما يدعوه أحيانا إلى الانتقال إلى الميدان لإجراء معاينات مادية أو للقيام بعمليات التفتيش أو الحجز التي يراها مفيدة لإظهار الحقيقة( ) وقد خص المشرع المغربي في القانون الجديد لموضوع التنقل والتفتيش والحجز في المواد من 90 إلى 107 من الباب الرابع المشار إليه في القسم الثالث المتعلق بالتحقيق الإعدادي من الكتاب الأول تحت عنوان “التحري عن الجرائم ومعاينتها”.
أ- التنقل:
إذا كانت هذه الميزة قد كان معترف بها للنيابة العامة كأحد إجراءات التحقيق التمهيدي، فإنه بالمقابل قد تم الاعتراف بها لقاضي المحقق ليقف بنفسه على معلومات يصعب بل يمكن أحيانا أن تصل إليه من سبيل آخر( ) ولهذا فهي وسيلة يتمكن بواسطتها قاضي التحقيق من الإدراك المباشر للجريمة ومرتكبها.
إن مهمة قاضي التحقيق كمحقق لإظهار الحقيقة بكل حرية لاعتباره قاصا من القضاة الجالسين تفترض عليه أحيانا الانتقال إلى الميدان لإجراء معاقبات مادية لم تجرها الضابطة القضائية أو لتكميل معاينة قامت بها الشرطة القضائية وذلك لتأكد مما ضمته هذه الأخيرة من حيثيات. وعندما ينقل إلى عين المكان فإنه يكون ملزما دائما بأن يصحب معه كاتب الضبط الذي يسهر على تحرير محضر على كل العمليات التي تم إنجازها من تفتيش وحجز إلى غير ذلك، فإذا كان هذا موقف يعظم عليه المشرع، فإن هذا ليس على سبيل الإطلاق بحيث عمد في المقابل بتقيد مهمة قاضي التحقيق عن طريق لزوم وإجبارية استشارة النيابة العامة بذلك، وهذا ما يبرر الوضعية المزرية لقاضي التحقيق في تبعيته لسلطة النيابة العامة التي تعتبر اليد اليمنا للسلطة التنفيذية.
ب- التفتيش:
هو وسيلة الإثبات أدلة وعادية ويقصد به البحث مادي يفيد في مكان ما سواء كان مسكونا أو غير مسكونا وذلك لتبديد كل الشكوك التي توصل إليها في إطار الاستنطاق الابتدائي وما ضمن في ملتمس إجراء التحقيق من طرف النيابة العامة، وقد نصت المسطرة على هذا الإجراء في الفصل 101 من ق م ج.
ونظرا لخطورة هذا الإجراء ولحساسيته المفرطة بحيث تعتبر أحد مظاهر انتهاك حرية الضنين بحيث بمجرد الأمر بالتفتيش يعتير حيف بالنسبة للمتهم وإهانة له، بل والاعتراف له بصفة المتهم قبل صدور حكم بذلك وهذا إهدار لقرينة البراءة التي تضمن للمتهم كرامته وقيمته الاجتماعية خصوصا داخل مجتمع جمعوي كالمجتمع المغربي الذي يؤمن بما يقال أكثر مما يرى.
ونظرا لخطورة هذا الإجراء فقد عمل المشرع إحاطته بضمانات هامة تكرس لمفهوم قرينة البراءة، فاستنادا إلى الفصل 101 م ج «يجري التفتيش في جميع الأماكن التي قد يعثر فيها على أشياء يكون اكتشافها مفيدا لإظهار الحقيقة ويجب في هذه الحالة على قاضي التحقيق تحت طائلة البطلان أن يتقيد بمقتضيات المواد 59 و60 و62.
وهكذا فإذا كان المشرع قد اعترف لقاضي التحقيق بالحقيقة بالتفتيش فإن ذلك لن يكون إلا بشروط أساسية لضمان كرامة وحرمة المسكن والمتهم وتتمثل هذه الشروط في:
الشرط الأول: أن يتعلق الأمر بجنية.
الشرط الثاني: ويهم من يقع التفتيش في منزله، ويجب أن يكون هو المتهم نفسه، فإذا كان رب المنزل شخص آخر أوجب تفتيشه كمبدأ عام داخل ساعات القانونية لإخراجها، وعلى خلاف هذا الحكم فإن الفصل 4 من القانون العدل العسكري يسمح بتفتيش أي منزل خارج الوقت القانوني حتى ولو كان منزلا غير منزل المتهم.
الشرط الثالث: ينفي أن يقوم بالتفتيش قاضي التحقيق شخصيا ولابد أن يكون برفقة كذلك النيابة العامة.
وعلاوة على ذلك ينفي على قاضي التحقيق أن يتخذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على السر المهني إذا كان التفتيش واقعا بمنزل شخص ملزم.
_________________________
– نجاة بضراني: “المدخل لدراسة القانون” ج. 1، (نظرية القانون) ص304.
– محمد عياظ: “دراسة في المسطرة الجنائية المغربية”، ج. 2، ط. 1، 1991، الناشر شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، ص91.
– الفصل الأول من المسطرة الجنائية.
– نقض في الطعن رقم 20 لسنة 54 قضائية جلسة 27/5/1989.
– د. أحمد فتحي سرور: “الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية”، م، س.
– تحيل هذه المقتضيات على نفس الصلاحيات التي يتمتع بها ضباط الشرطة القضائية والتي بموجبها يمكن منع أي شخص من مغادرة مكان ارتكاب الجريمة ولربما تم اتخاذ في حقه إجراء الوضع تحت الحراسة النظرية، راجع مقتضيات المادة 65.
– أحمد بوسقيعة: “التحقيق القضائي”، دار الحكمة للنشر والتوزيع، ص87.
– محمد عياض: “دراسة في المسطرة الجنائية المغربية.
المطلب الثالث: سلطات قاضي التحقيق في تكيف الفعل الجرمي والأمر بفتح التحقيق
سبق القول بأن لجنة واضعي المدونة تكونت أغلبها من قضاة النيابة العامة، وهذا ما جعل هذه اللجنة تبالغ نوعا ما في حماية أنفسهم من الاعتبار عن طريق تمتيع أنفسهم بحصانة مهمة جدا وكذلك لكون المشرع وفي سياسته العامة يود تعزيز وتقوية مركز النيابة العامة في المجتمع لاعتبارات سياسية لا تخفى عن الجميع وفي اعتبارها الابن البار للسلطة التنفيذية تأتمر بأوامرها وتنفذ سياستها( ). وهذا ما توصلت إليه هيئة الإنصاف والمصالحة المكلفة بجبر الضرر الناتج عن الحقيقة الزمنية ما بين 1958-1998، التي سميت بسنوات الجمر والرصاص، وتكمن هذه الحصانة في وضع قاضي التحقيق تحت رقابة هذا الجهاز فيما يخص الإجراءات المتخذة في التحقيق الإعدادي.
فإذا كان القانون الجديد وخاصة المادة 75 منه الحق لقاضي التحقيق، إذا كان حاضرا بمكان وقوع الجريمة المتلبس بها في أن يتخلى له الوكيل العام للملك ووكيل الملك أو ضابطة الشرطة القضائية بقوة القانون عن عملية البحث، إلا أن المادة 84 من نفس القانون ورد فيها أن قاضي التحقيق لا يستطيع إجراء أي تحقيق إلا بعد أن يتلقى من النيابة العامة ملتمسا بإجراء التحقيق ولو كان قاضي التحقيق يقوم بالمهام المخولة له في حالة تلبس، فالنيابة العامة هي الجهة المخول لها تعين من يحقق في القضية عند تعدد قضاة التحقيق لدى محكـمة الاستـئناف (9م ج) كما يمكن أن تقدم ملتمسا للغرفة الجنحية بحسب القضية من قاضي التحقيق وإحالتها على قاضي آخر للتحقيق حسب الفصل 91 م ج.
طبعا ستختار النيابة العامة من يميل أساسا إلى تبني وجهات نظرها بشكل أو بآخر أي أنها ستختار من ضمن قضاة التحقيق من تستشعر أنه جزء من سلطة الاتهام أكثر من انتمائه إلى جهاز يطلق العنان لسلطة التحقيق، أي أحد قضاة النيابة العامة في زي وصفه قاضي التحقيق، وهذا الوضع بالتأكيد ليس له فقط مساس بحياد هذا الأخير ونزاهته، بل له مساس بشكل خطير بوضعية المتهم وبمجمل الضمانات التي يتمتع بها، لأن من سيقوم بالتحقيق شخص مشكوك في حياده وذلك لعلاقته المشبوهة بالشكوك لقيامها على اعتبارات رضى النيابة العامة عليه دون باقي قضاة التحقيق وتفضيله بملفات قضايا هامة أو مثيرة للرأي العام الوطني أو الدولي، وهذا كله شبهة مؤكدة( ) وهي كما سلفنا كلها اعتبارات يتعين أن تقود آليا وحتميا إلى تجريح قاضي التحقيق المذكور.
وما يزيد الطين بلة ويؤزم من وضعية قاضي التحقيق هي التبعية العمياء لهذا الأخير لنيابة العامة، بحيث تقوم أيضا بإحالة محاضر الشكايات والانابات على هيئة التحقيق وكذلك تقديم الملتمسات بقصد القيام بإجراءات التحقيق ولو كان واضعا يده على القضية في حالة تلبس طبقا للمادة 84 من ق م ج. في الواقع لا نجد تبرير لتقديم ملتمس في هذه الحالة إلا لتذكير قاضي التحقيق بوضعيته المزرية.
كما أن للنيابة العامة أن تطلب من قاضي التحقيق القيام بكل إجراء مفيد لإظهار الحقيقة أو ضروري للحفاظ على الأمن، ولا يمكن إجراء بحت من طرف قاضي التحقيق إلا بناء على ملتمس كتابي محال إليه من النيابة العامة أو بناء على شكاية المتضرر المنتصب طرفا مدنيا، وفي إطار علاقة قاضي التحقيق مع النيابة العامة فإن القانون الجديد للمسطرة الجنائية يلقى مجموعة من الواجبات على عاتق قاضي التحقيق، منها:
1- إحالة ملف القضية على النيابة العامة لاستدعاء للمحاكمة طبقا لقانون المادة 209 م ج.
2-تبليغ الشكاية إلى وكيل الملك أو الوكيل العام للملك في حالة اتخاذه موقفا مخالفا لملتمس النيابة العامة يصدر بذلك أمرا معللا مادة 93.
3-إشعارها عند الانتقال إلى التفتيش ولها إمكانية مرافقته طبقا للمادة 99 قانون المسطرة الجنائية.
4-إخبار النيابة العامة عند الانتقال خارج نفوذ المحكمة باعتباها وصية عليها، المادة 100.
5-لا يصدر قاضي التحقيق الأمر بإلقاء القبض إلا بعد استشارتها، المادة 144 قانون المسطرة الجنائية.
6-يجوز لقاضي التحقيق بعد تلقي رأي النيابة العامة أن يأمر بإخضاع المتهم للعلاج ضد التسمم طبقا لمقتضيات المادة 88 من ق م ج.
7-يجب تبليغ النيابة العامة، دورا فعالا باستئناف قرارات قاضي التحقيق النيابة في رد الأشياء المحجوزة بعد صدور قرار بعدم المتابعة، المادة 107.
8-يجب تبليغ النيابة العامة بقرار إجراء الخبرة، فهذا الشرط لا معنى له ما دام لا يمكن لنيابة الطعن فيه (م 196) وبأمر الاعتقال الاحتياطي أو بالإفراج المؤقت (المادة 178).
9-تقديم طلب الافراج المؤقت إلى الغرفة الاستئنافية طبقا لنفس الشروط والآجال المنصوص عليها في المادتين 179 و180.
10-تقديم الطعن بالاستئناف في قرارات الإفراج مع بقاء المتهم رهن الاعتقال الاحتياطي إلى أن يبث في الاستئناف، بغض النظر على المدة التي قد يستغرقها النص في الدعوى طبقا للفقرة 2 من المادة 181.
11- مطالبة قاضي التحقيق بفتح تحقيق مؤقت بواسطة ملتمس كتابي، الفقرة 4 من المادة 93.
12-تقديم النيابة العامة ملتمسا بخصوص الأوامر القضائية بشأن انتهاء التحقيق، المواد 214 إلى 217.
13-توجيه النيابة العامة إلى قاضي التحقيق ملتمساتها بشأن الأوامر الآتية:
-انتهاء البحث
-الأمر بعدم الاختصاص
-الأمر بعدم المتابعة
الأمر بوضع حد للوضع تحت المراقبة القضائية، المواد 214 إلى 217.
14-للنيابة العامة حق الاستئناف أمام الغرفة الجنائية لكل الأوامر الصادرة عن قاضي التحقيق باستناد الأمر القاضي بإجراء الخبرة وتبلغ لها داخل أجل 24 ساعة من استئناف المتهم والطرف المدني، المواد 222 –227.
15-يحق للنيابة العامة وحدها أن تقرر ما إذا كان هناك مبرر لالتماس بسبب ظهور أدلة جديدة (الشهود والمحاضر والمستندات) طبقا للمادة 228-230 م ج.
يمكن القول أن المشرع من خلال قانون المسطرة الجنائية الجديدة قد وضع لبنات جديدة لمؤسسة قاضي التحقيق بالنظر إلى دورها الفعال في مجال التحقيق الإعدادي الذي أسس على أساس حماية المتهم والمجتمع على حد سواء، كما أنه وسع من اختصاصات هذه المؤسسة وخلق ثنائية للتحقيق الذي كان محضورا في السابق في محاكم الاستئناف. إلا أن الوضع كفيل أعلاه باعتباره بارزا وصارخا على فكرة اللامساواة وطغيان وتسلط الدولة والذي يؤمن به المشرع، فالنيابة العامة خصم فكيف يمكن للخصم أن يكون شبه رئيس لمن يقوم بالتحقيق ففاقد الشيء لا يعطيه. وتبقى هذه التجربة رهينة بما سوف تسفر عنه الممارسة القضائية في تفعيل المقتضيات الإجرائية الجديدة.
_____________________________
– تقرير هيئة الانصاف والمصالحة الذي قدم إلى الملك محمد السادس والذي تبنى مجموعة من التوصيات لعدم تكرار ما جرى، ومن أهم هذه التوصيات استقلال النيابة العامة عن وزير العدل، والنص صريح على تطبيق الاتفاقيات الدولية على القانون الوطني.
– راجع في هذا الاتجاه: محمد عياض: “دراسة في المسطرة الجنائية”، م. س، ص103. فقرة 549.
المبحث الثاني: قضاة الحكم
تعتبر مرحلة المحاكمة تجسيدا لروح القانون وإرادة المشرع، فهي المرحلة الثالثة التي تمر بها الدعوى الجنائية بعد مرحلتي الاتهام والتحقيق، وينصرف مدلول المحاكمة إلى مجموعة الإجراءات التي تستهدف تمحيص أدلة الاتهام والنفي والنظر في طلبات ووقوع الخصوم والانتهاء بإصدار الحكم الجنائي. ولهذه المرحلة خصائصها الذاتية التي تميزها عن غيرها من إجراءات الدعوى، فقضاء الحكم هو السلطة المختصة بمباشرة المحاكمة، والتحقيق النهائي إجراء ضروري. فمن المقرر أنه لا يجوز للمحكمة أن تكتفي بالتحقيقات الأولية للحكم في الدعوى وإنما عليها أن تحقق بنفسها في التهمة المعروضة عليها وتلتزم بالقواعد المقررة في الإثبات إذ يتم من خلالها تمحيص وتقدير الأدلة سواء ما كان منها لإثبات التهمة أو لنفيها عن المتهم، ويجب أن يتأسس الحكم بالإدانة على الجزء واليقين في حين يكفي الشك لتبرئة المتهم.
وتعد إجراءات المحاكمة والفصل في الدعوى من الإجراءات الضرورية لتطبيق القانون، فهي وفاء بالتزام دستوري، ومن المبادئ الدستورية والجنائية أنه «لا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي» «لا توقع عقوبة على متهم حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه» «وأن استقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات».
وما يميز فترة المحاكمة أنه فيها يتم تقدير الأدلة بصفة نهائية ويتحدد فيها مصير المتهم ومن تم فقد أحاطها المشرع بضمانات هامة تحمي المتهم ومصالحه وقرينة البراءة المفترضة فيه، وعلى هذا الأساس ستتم مناقشة وتوضيح أهمية هذه المرحلة على المتهم من خلال ربطها بالتزامات القاضي وصلاحياته ومدى تأثير كل منهما على قرينة البراءة. المطلب الأول: التزامات قاضي الحكم
الفقرة الأولى: القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي
ومدلول هذا الالتزام يفيد أن القاضي وهو يفصل في أي دعوى، يجب عليه التمسك بالحقيقة القضائية دون الحقيقة الشخصية والتي تثبت عن طريق رسمي وهو القانون. فالمبدأ العام هو أن يتقيد القاضي في ممارسة حريته في الاقتناع وتكوين عقيدته بقيد عدم الفصل في الدعوى الجنائية بناء على معلوماته الشخصية لأنه يجب أن يستند في حكمه على أدلة لها أصل في الأوراق فيجب على القضاة أن يفصلوا بين حياتهم خارج وداخل المحكمة وعدم الخلط بين علمهم الشخصي في الدعاوى كما لو سبق لقاضي البث في قضية ما، فيها أدين مثلا متهم لارتكابه جريمة السرقة وبعد مرور زمن أحيل نفس الشخص على أنظار نفس القاضي بتهمة مماثلة فلا يمكنه الحكم عليه بناء على علمه المسبق دون التثبت والإحاطة بماديات الواقعة لمجرد سوابقه، فيجب أن يتخذ موقفا سلبيا اتجاه علمه. وفي هذا الالتزام ضمانة هامة لكل متهم يعرض على المحكمة وتدعيما لقرينة البراءة، بالرغم من إغفال المشرع المغربي النص عليها في قانون المسطرة الجنائية، ورغم ذلك فإن العمل بها يبقى التزاما على عاتق القضاة.
فالنص على ضرورة التزام قضاة الأحكام بعدم القضاء بعلمهم يخدم قرينة البراءة من حيث أنه يحمي كل شخص بعدم إدانته بناء على تحكمية القضاة أو استعمالهم لسلطتهم الإقرار أو تسوية خلافات شخصية، وفي الوقت ذاته لا تخدم قرينة البراءة بعدم النص على التخفيف من حدته وترك مجالا للقضاة يمكنهم فيه تجاوزه، لأن التمسك الحرفي بهذه القاعدة يكون هو نفسه مجافيا للواقع وينعكس سلبا على قرينة البراءة، فعندما أقر الفقه العمل بهذه القاعدة كان عليه إضفاء بعض المرونة عليها وأبرز مثال على ذلك، قضية شهيرة وقعت في جزيرة مالطا ونظر فيها قاضي يدعى كامبو -CAMBO-( ) وتتلخص وقائعها في أنه وفي أوائل القرن الثامن عشر شغل هذا القاضي أحد المراكز القضائية الرئيسية بجزيرة مالطا. وحدث أنه بينما كان يرتدي ملابسه في صباح أحد الأيام لفت نظره مشاجرة وقعت تحت نافذته ولما تطلع للخارج رأى رجلين يتشاجران ثم طعن أحدهما الآخر بخنجر صغير.
ورأى القاضي وجه القاتل بوضوح عندما هم بالفرار… وفي نفس الوقت ألقى بجراب الخنجر بعيدا ثم اختفى… ظهر بعد ذلك خباز كان على مقربة من محل الحادثة وعثر أولا على جراب الخنجر فأخذه ووضعه في جيبه. ولكن ما إن وقع نظره على الجثة حتى ارتعد وفر هاربا خشية اتهامه بارتكاب الجريمة وكل هذه الأمور وقعت على مرأى من القاضي كامبو… إثر ذلك وصل رجال البوليس إلى محل الحادث ولما لاحظ فرار هذا الرجل من بعيد طاردوه وتمكنوا من القبض عليه، ولما فتشه أحدهم وجد معه جراب الخنجر… والقاضي كامبو هو الذي ترأس جلسة محاكمة هذا الخباز ولم يقم بأية محاولة لحمايته حيث طبق بأمانة مبدأ “عدم قضاء القاضي بعلمه” ورأى أن واجبه يقضي عليه تفحص القضية على أساس الأدلة المقدمة فيها كأية قضية أخرى… واعتبر المتهم مرتكبا للجريمة طبقا لنصوص القانون وحكم عليه بالإعدام.
ويلاحظ من خلال مقتضيات هذه القضية أن القاضي تمسك بالتطبيق الحرفي للقاعدة وقضى بإدانة المتهم المعروض عليه متناسيا أن الأساس في الدعوى ليس هو إدانة أي شخص لبيان أن العدالة تأخذ مجراها وإنما عقاب المرتكب الحقيقي للفعل الإجرامي، فما كان يجب عليه اتخاذ هذا الموقف خصوصا وأن عدم قضاء القاضي بعلمه تنحصر على الأشخاص فقط دون الوقائع وحيثيات الجريمة، لذلك فلو أن القوانين نصت على مرونة مقيدة في تطبيق القضاة لها لما أمكن إدانة وإعدام متهم بريء وبالتالي إهدار قرينة البراءة.
يبقى الإشارة إلى الدور الذي يجب أن يتبعه المجلس الأعلى في هذا المجال، حيث أن القانون ألزم القاضي بعدم القضاء بعلمه وضمانا لها ألزمه كذلك بتعليل الحكم تدعيما منه لمقتضيات المادة الأولى من ق م ج، ولكن دائما في قالب فارغ من محتواه فمن يضمن أن القضاة لن يؤسسوا حكمهم بناءا على علمهم وإسناد ذلك إلى اقتناعهم بالأدلة طالما أن بطلان الحكم يترتب في حالة عدم تعليل الحكم أو في حالة التعليل الصوري والذي يعني ترجيح أدلة على أخرى، ولكن تتدخل عوامل خارجية كالعلم الشخصي أو أمور خاصة كانت السبب في ترجيح ذلك الاختيار.
وعلى اعتبار أنه لا يمكن معرفة النوايا الحقيقية للقضاة وطريقة تفكيرهم، يبقى للمجلس الأعلى أن يبرز حضوره القوي وذلك من حيث أخذه أو عدم أخذه بالتعليل.
وحيث أن هناك علاقة وطيدة بين التزام القاضي بعدم الحكم بناءا على علمه ومشتملات الحكم أي الحجج التي اعتمدها في تأسيس حكمه لكي لا يكون حكمه محل طعن فهو ملزم بالحجج المعروضة عليه مصداقا لذلك جاء في قرار للمجلس الأعلى( ) (أنه بمقتضى الفصل 287 من قانون المسطرة الجنائية فإن القاضي لا يمكنه أن يبني مقرره إلا على حجج عرضت عليه أثناء الإجراءات ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامه، ولهذا يتعرض للنقض المقرر الذي يبني على علم رئيس الجلسة عندما قام بالتحقيق في قضية سابقة).
الفقرة الثانية: التزام القاضي بالحجج المعروضة عليه
استنادا على مقتضيات المادة 287 من ق م ج والتي نصت على أنه «لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفاهيا وحضوريا أمامها» فإنه يمنع منعا كليا على قضاة الحكم تأسيس وإصدار حكمهم في أي ملف بناء على حجج لم تعرض عليهم شخصيا وتمت مناقشتها من قبل الأطراف، فهم ملزمون عند النظر في أي دعوى عمومية بالحجج المعروضة عليهم فقط بالإضافة لصلاحيتهم للبحث عن وسائل إثبات أخرى، كذلك الأمر بالنسبة لأطراف الدعوى طالما أن الإثبات في القانون الجنائي معروف بحرية الإثبات وطالما أيضا أن مجموع هذه الوسائل ستعرض على جلسة الأحكام للتثبت منها.
ومن بين أهم النتائج التي تترتب على التزام القاضي بالحجج المعروضة عليه والتي تعتبر بحق تدعيما من المشرع لجوهر قرينة البراءة المعترف بها دوليا للمتهم هي ارتباط القاضي الواحد بمجمل إجراءات المحاكمة منذ فتح الملف إلى حين صدور حكم نهائي وذلك تطبيقا للفقرة الثانية من المادة 297 من ق م ج، والتي تنص على أنه «يجب تحت طائلة البطلان أن تصدر (المحكمة) مقرراتها من قضاة شاركوا في جميع المناقشات» وفي حالة ما إذا حدث عائق لأحد القضاة منعه من إتمام المحاكمة فيتعين عكس ما هو معمول به بالنسبة لقضاة النيابة العامة لتفادي بطلان الحكم، تعويضه وإعادة كافة الإجراءات من أولها. وفي هذا ضمانة هامة للمتهمين لكي يتم محاكمتهم من قبل قضاة شاركوا في تفحص الأدلة وكونوا اقتناعهم من خلالها( ).
ولا يعتبر التزام القضاة بالحجج المعروضة عليهم التزاما مطلوق على عواهنه بل ترد عليه قيود تحد من مداه، فالوسائل التي يجب أن تعتبر حجة يأخذ بها القاضي ينبغي أن تكون موافقة لدرجة الرقي الأخلاقي وحقيقية ليست بواهية. ومن بين أهم الحجج التي تأخذ بها المحكمة، هناك المحاضر وشهادة الشهود واعتراف المتهم، إلا أن القاضي أحيانا لا يقتصر على مجرد هذا بل يأمر بإجراء خبرة للتأكد من مسألة خارج اختصاصه، فما هي إذن القوة الإلزامية لكل حجة من الحجج؟
أولا: المحاضر
ثانيا: شهادة الشهود
ثالثا: الاعتراف
رابعا: الخبرة
أولا: المحاضر
تعتبر المحاضر بصفة عامة سواء التي يتولى القيام بها ضابط الشرطة القضائية أو قاضي التحقيق، قيمة إثباتية لا غنى عنها في جميع مراحل الدعوى العمومية والمشرع المغربي لم يقم بتعريف المحضر تاركا المجال للاجتهاد الفقهي، وعموما يمكن القول أن المحضر هو وثيقة رسمية صادرة من جهات مختصة قانونا بتحريره ويتم تضمينه ما عاينه أو تلقوه من الأشخاص الذين تم الاستماع إليهم( ) وليست هناك حالة وحيدة أو معينة يتم على إثرها تحرير محضر وإنما يتم ذلك كلما استدعى الأمر إثبات الواقعة، على أنه يجب التمييز ين المحضر والتقرير وألا نقع في الغلط الفادح الذي وقع فيه واضعوا المسطرة الجنائية، حيث أن المحضر هو مؤسسة قانونية تستعمل قضائيا لإثبات وقائع معينة، ولا يمكن إضفاء صفة محضر إلا إذا حرر من طرف ضابط عكس التقرير والذي يمكن للعون أو المقدم تحريره ويعتبر مجرد إجراء إداري لا قيمة قضائية له ولا يرقى بناء عليه إلى مرتبة المحضر وذلك لأن هذا الأخير قد يستعمل لإدانة متهم، لهذا يجب احترامه مجموعة من الأمور وإحاطته بمجموعة من الضمانات لعدم هدمه قرينة البراءة.
ويمكن تقسيم المحاضر من حيث القوة الإثباتية إلى ثلاثة أنواع: المحاضر المحررة بخصوص الجنح والمخالفات ونصت عليها المادة 290 «المحاضر والتقارير التي يحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت في الجنح والمخالفات يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس بأي وسيلة من وسائل الإثبات» وهذه المحاضر تعتبر دليل إثبات لإدانة المتهم ما لم يتم إثبات ما يخالف ما جاءت به اعتمادا على مبدأ حرية الإثبات في المادة الجنائية.
النوع الثاني من المحاضر وهو ما نصت عليه المادة 291 من ق م ج «لا يعتبر ما عدا ذلك من المحاضر والتقارير إلا مجرد بيانات» ويتعلق الأمر بالمحاضر المرتبطة بالجنايات وتعتبر الأضعف من ناحية الإثبات بين المحاضر، فغرفة الجنايات تستأنس بها وتستعين بما ورد فيها من وقائع ولكن لا تعتبرها وحدها وسيلة إثبات كافية لإصدار الحكم بالإدانة، ويمكن للقاضي استبعادها لأنها تدخل ضمن القرائن البسيطة. جاء في قرار المجلس الأعلى وحيث نقض حكم أدان المتهم بجناية بناء على اعترافه المسجل بمحضر الضابطة القضائية «ولئن كانت المحكمة صرحت في حكمها المطعون فيه أن الاعتراف لدى الضابطة القضائية وإن كان مجرد بيان فإنها قد اقتنعت بما جاء فيه( )» ولا ندري ما هي تداعيات التفرقة في القوة الإثباتية بين المحاضر المحررة في الجنح والمخالفات وتلك المقررة في الجنايات لأن هذه الأخيرة هي الأكثر خطورة من الأولى أم لأن العقوبة المقررة لها أشد، علما أن المحاضر جميعها محررة من طرف الضابطة القضائية ومعروف كيفية تحريرها فلا داعي للتذكير والإشارة مجددا بمستوى التكوين القانوني لضباط الشرطة القضائية الضعيف إن لم نقل المنعدم مما يستدعي معه الأمر التغاضي عن تلك المحاضر، لتعارضها مع المبادئ والأهداف التي ترتكز عليها المسـطرة الجـنائية وانعكـاسها بالتبعـية مع أهـم وأول مبدأ جـاء به ق م ج.
هذا ولا ننسى أن مفهوم العقوبة ومخلفاتها في نفسية الشخص هي واحدة، فمجرد الحكم عليه بالسجن ولو لمدة بسيطة سيترتب عليه اضطراب مادي ونفسي، إضافة إلى نظرة المجتمع له على أنه مجرم له سوابق، لذا لا داعي لذلك التمييز خصوصا وأن الهدف من العقاب هو محاربة الجريمة والمجرمين وتحقيق العدالة وليس اتهام أكبر عدد من الناس، لذا يجب اعتبار جميع المحاضر بما تتضمنه مجرد معلومات وبالتالي تجريدها من قوتها الإثباتية وعدم إلزام القضاة بالأخذ بها كحجة للإدانة.
وبما أننا وكما سبق الذكر نطمح في المساواة بين قوة المحاضر في مجال الجنايات والجنح والمخالفات واعتبارها مجرد بيانات غير إلزامية على أساس أنهما يخلفان نفس النتائج. فإننا بداهة نناشد المشرع بإلغاء النوع الثالث من المحاضر وهي الغير قابلة للطعن إلا بالزور لتعارضها الواضح مع مبدأ قرينة البراءة المفترضة في كل متهم وأيضا مع مبدأ حرية الإثبات، والحال أن تقديم هذا الأخير للمحكمة بمحضر يوثق لمضمونه ولا يمكن الطعن فيه إلا بالزور، يعني أن المتهم مدان وأنه تم إهدار قرينة البراءة علاوة على ذلك فإن هذه المحاضر حقا تعطي الانطباع بأن من يتولى عملية إدانة المتهم بالفعل هو محرر المحضر أما القضاة فإنهم يصادقون عليها( ).
ثانيا: شهادة الشهود
نصت المادة 296 من ق م ج «تقام الحجة بشهادة الشهود وفقا لمقتضيات المادة 325 وما يليها إلى غاية المادة 346 من هذا القانون» ويمكن تعريف الشهادة بأنها تقرير يصدر عن شخص في شأن واقعة معينة يدلي بما رآه أو سمعه. والشهادة لها دور هام بين وسائل الإثبات الجنائية التي يستعين بها القاضي في تأسيس حكمه سواء بالإدانة أو البراءة متى أبدى ارتياحه لها، على أن الشهادة المأخوذ بها هي التي تتوفر على مجموعة من الشروط كأن يكون الشاهد بالغا سن الرشد وغير محروم من أدائها، وأحسن المشرع عندما نص في المادة 330 على أن يستفسر الرئيس الشاهد عما إذا كانت تربطه والمتهم عداوة أو خصومة خوفا من أن يستغل وضعه كشاهد ويحرف الشهادة ويحاول الإضرار بالمتهم وإبعاد العدالة عن الحقيقة وحيث أن شهادة هؤلاء لا تأخذ بعين الاعتبار وإنما تعتبر مجرد تصريحات أو معلومات خدمة من المشرع لمقتضيات المادة الأولى.
والشهادة التي تعتبر وسيلة إثبات قانونية هي التي يتم أداؤها أمام القضاء سواء قاضي التحقيق أو هيئة الحكم بعد أداء اليمين القانوني. أما ما يدلي به أمام ضابط الشرطة القضائية وأمام النيابة العامة لا يكتسب تلك الصفة ويكفي ما سبق وأشرنا إليه في هذا المجال تفاديا للتكرار. على أن الملاحظ في المحاكم اعتمادها على تصريحات الشهود في محضر البحث التمهيدي دون أن تستدعيهم المحكمة لأداء الشهادة أمامها. وحيث إن شهادة الشهود لدى الدرك الملكي مدونة بمحضرها وللمحكمة أن تعمل بما جاء في محضر الضابطة القضائية متى اطمأنت إليه( )». وكيف للمجلس الأعلى أن يعتمد هذا الاتجاه المتضارب، فنصوص المسطرة الجنائية نفسها تنص على بطلان شهادة الشاهد الذي لم يؤدي اليمين أمام المحكمة فكيف يسمح ببناء الحكم بالإدانة على شهادة أديت خارج المحكمة وبدون يمين، ففي هذا التصرف إهدار لضمانات المتهم لاعتماد القضاة على شهادة غير مشروعة طالما تمت خارج نطاقها ناهيك عن أنها أديت أمام الضابطة إن لم تكن قد انتزعت أو لفقت للمتهم وبالتالي إحالته على جلسة الأحكام وهو متهم غير بريء بل مدان ويبقى للمحكمة فقط تقدير مدة العقوبة.
فهنا يجب التنبيه إلى خطورة شهادة الشهود على قرينة البراءة، فرغم أهميتها فقد كانت محل نقد ونظر خاصة وأن القضاء يجب أن ينظر إليها بعين من الحذر لأنها قد ترد أحيانا غير مطابقة للحقيقة سواء عن عمد أو عن خطأ، فهي إذن طريقة إثبات ضرورية، لكنها في الوقت نفسه طريقة ضعيفة وخطيرة، كما نلاحظ أنها تعتمد في كثير من الأحيان على المجاملة لأحد أطراف الخصومة، كما أن الساحة القضائية تشهد وبكثرة حالات شراء الشهادة أي دفع مبالغ غير مشروعة لأداء شهادة زور لصاحب المصلحة…
إلا أنه مع ذلك لا يتصور عدم الاعتماد عليها بالرغم من كل ذلك، فالشهادة لها دورها الرئيسي في الإثبات الجنائي ويبقى لقاضي الموضوع الرأي الفاصل في تقدير قيمتها، فله تجزئة أقوال الشاهد كلما تراءى له ذلك، أو ترجيح أقوال بعض الشهود على البعض الآخر. وهنا يجب التمسك بالشهادة الأقرب للصواب والتي تروى من قبل أغلب الشهود في الوقت الذي نرى عكس ذلك، فلو تعدد شهود النفي مقابل شاهد واحد للإثبات يرجح القاضي شهادة هذا الأخير، في حين كان عليه ومسايرة منه لقرينة البراءة ترجيح شهادة شهود النفي.
وترجع القيمة الإثباتية للشهادة إلى السلطة التقديرية المطلقة للقاضي وحده، ولا يطالب عند استبعاده للشهادة بتعليل هذا الاستبعاد تعليلا خاصا وإنما يكتفي أن يعلن عن عدم اقتناعه بها( ). جاء في قرار للمجلس الأعلى «وحيث إنه من جهة أخرى فإن الأخذ بشهادة الشهود أو عدم الأخذ بها موكول إلى تقدير محكمة الموضوع التي لها أن تأخذ بها متى اطمأنت إليها أو لا تأخذ بها ولا يحتاج الأمر إلى تعليل خاص» وإذا كان تقدير القيمة الإثباتية لشهادة الشهود راجعا إلى قضاء الموضوع فنلاحظ أن قرارات المجلس الأعلى متضاربة فأحيانا يرى أن لا رقابة على القاضي في الأخذ بالشهادة أو استبعادها وبالتالي غير ملزم بالتعليل( ) «شهادة الشهود وتقدير قيمتها والأخذ بها وعدم الأخذ بها، كل ذلك موكول إلى الاقتناع الصميم لقضاة الزجر لا ينفع في ذلك لرقابة المجلس الأعلى».
وأحيانا أخرى يفرض عليه هذه الرقابة عن طريق إلزامه ببيان مضمون الشهادة وتعليل أسباب استبعادها أو الأخذ بها، جاء في قرار للمجلس الأعلى( ) «أن محكمة الاستئناف قد استبعدت شهادة شهود ولم تقتنع بهم بالرغم من معاينتهم للحادثة (حادثة سير) دون بيان العلة التي اعتمدتها في إبعادهم وعدم اقتناعها بتصريحهم، الشيء الذي يكون معه القرار ناقص التعليل الموازي لانعدامه مما يستوجب نقضه».
في الوقت الذي كان على المجلس الأعلى الاتجاه دائما إلى تعليل الحكم في الأخذ بالشهادة، أي الاتجاه الثاني سواء من الناحية الواقعية أو القانونية لتقييد حرية القضاة وبالتالي سلطتهم التحكمية وبالنتيجة عدم الإضرار بالمتهمين..
ثالثا: الاعتراف
وهو إقرار المتهم على نفسه بارتكاب الجريمة أو بمشاركته فيها بطريقة صريحة واختيارية، دون أن يتعرض للاستفزاز أو ضغوط تحمله على الاعتراف على نفسه( ). وقد يصدر عن المتهم إما أثناء المحاكمة وهو الاعتراف القضائي وإما في مرحلة البحث التمهيدي أو التحقيق الإعدادي أو خارج إجراءات المتابعة كالإدلاء به أمام موظف أو شهود ويسمى بالاعتراف غير القضائي.
وتختلف القيمة الإثباتية لكل منهما حيث يعتبر هذا الأخير أدنى مرتبة في الإثبات لافتقاد مناقشة المتهم له للتأكد من مدى صحته، ونتساءل ما الفرق بينهما وفي حالة تعارضهما ما هو الاعتراف الواجب الأخذ به من قبل القاضي؟
بالنسبة للفرق بين الاعتراف القضائي والاعتراف غير القضائي، هو أن هذا الأخير يكون مشكوكا في صحته وفي كيفية انتزاعه تحت ظروف معينة ولربما لم يصدر عنه بالمرة وهو لا يلزم القاضي بشيء لعدم الإضرار بالمتهم، اللهم إذا ما أعيد ذلك الاعتراف منه اختياريا أمام المحكمة، فهنا يكون القاضي أمام اعتراف المتهم على نفسه في جميع مراحل الدعوى.
أما الاعتراف الصادر مباشرة أمام القاضي فمبدئيا يكون صحيحا ويأخذ به طالما كان ملما بجميع ماديات الجريمة ودون أن يكون للقاضي يدا في ذلك الاعتراف، كالإكثار من الأسئلة وتنويع عباراتها فينجم عن ذلك مغالطة أو عدم انتباه يؤدي بالمتهم إلى الإدلاء بأقوال لم يكن يقصد النطق بها لولا ذكاء القاضي وأسلوبه ولكي يكون الاعتراف اختياريا كذلك يجب أن يصدر من المتهم من غير تعريضه لوسائل ضغط معنوية كالتكرار المبالغ فيه للاستنطاق، كما يرى الرأي السائد في الفقه الجنائي تحريم الأساليب التي تفقد المتهم السيطرة على إرادته الواعية مثل التخدير والتنويم المغناطيسي. وفي حالة التعارض في الاعتراف بين المرحلتين وذلك بأن أكد المتهم عدم ارتكابه الفعل المتابع من أجله أمام القاضي في الوقت الذي تنص فيه المحاضر على أنه اعترف على نفسه تلقائيا، فهنا القاضي ملزم دون أي تفكير في استبعاد الاعتراف المتضمن في المحاضر تعزيزا منه لقرينة البراءة المفترضة في المتهم، إلا أن الواقع العملي في المحاكم هو اعتمادها بالفعل على الاعترافات المتضمنة في محاضر الضابطة القضائية وغير مبالية بإنكار المتهم أمامها.
وعموما، فإن فحوى الإعتراف المضمن في أي محضر إنما يخضع لتقدير محكمة الموضوع. والتي لا تخضع في هذا الشأن لرقابة المجلس الأعلى، وهكذا يكون قضاة الموضوع عندما صرحوا بأن اعتراف الضنين كان تحت الإكراه، فقد استعملوا سلطتهم التقديرية في هذا الشأن( ).
وبالعودة لقضية كامبو وتتمة لما جاء في أحداثها… ولم يكن الدليل الضرفي المقدم للمحكمة كافيا لاتهام الخباز، ولكن بالرغم من ذلك فإن القاضي كامبو أصر بأن تتخذ ضد المتهم كل الوسائل العادية والغير العادية لحمله على الاعتراف وتحت تأثير التعذيب اعترف الخباز بارتكابه تلك الجريمة واعتبر هذا كافيا لإقناع القاضي والحكم عليه بالإعدام.
ومن هنا يتبين الدور السلبي للاعتراف ودحضه قرينة البراءة باعتماده كوسيلة للإدانة؛ لأن المنطق السليم لا يعقل أن يعترف الشخص على نفسه خصوصا أمام الضابطة القضائية لأن الكل أصبح اليوم يعلم كيفية انتزاعه بحيث يجد المتهم من اعترافه وسيلة للإفلات من التعذيب الذي قد يفضي بحياته فيبقى دائما على القاضي عدم استعماله كحجة لإدانة المتهم لأن سلطته التقديرية لا تخوله أن يرتقي بهذه القرينة البسيطة إلى درجة الوسيلة القانونية للإثبات فيعتمدها وحدها للإدانة.
رابعا: الخبرة
أحيانا يتطلب القضاء للفصل في دعوى ما، الكشف عن بعض الوقائع استنادا على خبرة فنية أو طبية لا يمكن للقاضي النظر فيها لعدم تخصصه كالمسائل المتعلقة بالطب والهندسة، التحليلات الكيماوية… والقاضي قد يجد نفسه مضطرا إلى الاستعانة بهذه الخبرة إما بصفة تلقائية عندما تعرض عليه واقعة يتعذر عليه البث فيها فيضطر الاستعانة بالخبرة مخافة الإضرار بالمتهم، وقد تتحقق بطلب من أحد المترافعين وحيث يعتبر من الناحية القانونية من وسائل الدفاع الذي يحرص القانون على ضمانها لهم. وبناءا عليه لا يمكن للقاضي التنصل من إجراءها ورفضها، اللهم إذا رأى أن الوقائع المطلوب إجراء خبرة فيها واضحة لديه ولا تستدعي ذلك. وقد اختلفت آراء المجلس الأعلى بخصوص تعليل قرار الرفض، فقد ذهبت بعض قراراته إلى أن السكوت وعدم الجواب عن طلب إجراء خبرة يعيب الحكم ويجعله معرضا للنقض، كذلك الحكم الرافض دون تعليل كاف حيث جاء في إحدى قراراته( ) «يتعرض للنقض الحكم حين رفض طلب إجراء خبرة اختصر في التعليل على أنه لا داعي لإجراء خبرة مرة ثالثة لعدم وجود ما يبررها دون بيان الأساس الذي استخلصت منه المحكمة انعدام تبرير إعادة الخبرة لذا يكون معه القرار ناقص التعليل».
في حين جاء في قرارات أخرى أن للمحكمة أن تقتصر على الرفض الضمني لطلب الخبرة «وحيث أن الخبرة ليست هي المقصودة بالذات وإنما لا تقضي ولا تبرم وإنما هي وسيلة من وسائل الإثبات تملك معها المحكمة سلطة تقديرية لا يمكن مناقشتها»( ). ولا يمكن تحت أي ظرف إنكار الدور الذي يلعبه إجراء الخبرة في الساحة القضائية وخدمتها لمفهوم قرينة البراءة، فكم من متهم لولا إجراء خبرة أو فحص على دمه لأدين بجرائم لم يرتكبها، ونلاحظ أن المشرع اعترافا منه بالأهمية البالغة التي تكتسبها عملية إجراء الخبرة فقد أقر للنيابة العامة بإمكانية الطعن في جميع الأوامر الصادرة عن قاضي التحقيق إلا الأمر بإجراء خبرة فقد أقصاه. لكن نلاحظ أنه من الناحية الواقعية نجد أن هذا الإجراء لا يطبق إلا نادرا وحيث أن إجراء خبرة قلما يتم في الملفات المعروضة على القضاء.
ومن جهتنا فقد عاينا نازلة تضاربت فيها أقوال الشهود والتزم القاضي موقف سلبي، حيث كان بإمكانه إجراء معاينة تثبت له صحة أقوال هذا أو ذاك، علما أن القاضي قام بالاستناد في حكمه على هذه الشهادة، ولو أنه قام بإجراء معاينة لكان من السهل عليه معرفة القول الصحيح، وهذا ما يبين عمليا إغفال هذا الإجراء مع أهميته وتأثيره على قرينة البراءة.
ختاما وبعد استعراض أهم وسائل الإثبات التي تعرض على القاضي والتي لها مساس مباشر بقرينة البراءة، وبالتالي انعكاسها على أهم طرف في الدعوى الجنائية وهو المتهم وإن شددنا على أن القاضي ملزم بالحجج المعروضة عليه مبدئيا وعدم تجاوزها عبتا فيبقى له كامل الصلاحية عمليا في تقدير قيمه، ما يعرض عليه من وسائل الإثبات حسب ما يخدم مصالح المتهم لأنه الطرف الضعيف في الدعوى وعدم الإضرار به وبحقوقه المعترف بها له أثناء محاكمته.
الفقرة الثالثة: احترام ضمانات المتهم
إذا كانت الضمانات التي يجب أن تتوفر في مرحلتي ما قبل المحاكمة وتنفيذ العقوبة تكتسي أهمية بالغة، فإن الضمانات التي يجب أن تتوفر في مرحلة المحاكمة وأثناء مثول المعنيين بالأمر أمام القضاء الجنائي لا تقل أهمية عن المرحلتين السابقتين، ومن هنا كان للضمانات التي يجب توفرها خلالها اعتبارها القانوني والإنساني، وفيها يشعر القاضي بأن المتهم الماثل أمامه لا يعدو أن يكون إنسانا يتمتع بكل ما يجب أن يتمتع به غيره من الناس في حدود القانون ووفق ما تضمنته القوانين الإجرائية. ومن بين أولى الضمانات التي تتساوى فيها جميع المحاكم مساواة المتهمين أمام القضاء وعدم التفرقة بينهم لأن كل ماثل أمام القضاء يعتبر متهم ويضمن له محاكمة عادلة وشرعية، ويعتبر بريء إلى أن تثبت إدانته من قبل محكمة مختصة ومستقلة( ) ومنشأة بحكم القانون، ومن ضماناته كذلك عدم تعريضه لخطر العقاب عن الفعل الواحد أكثر من مرة، فمتى حكم على شخص نهائيا بالإدانة أو البراءة طبقا للقانون فلا يجوز محاكمته ثانية عن نفس الفعل ولو تحت وصف آخر إلا إذا ظهرت أدلة جديدة.
وفي إطار دائما الضمانات المخولة له أثناء إجراءات المحاكمة هناك مبدأ علنية الجلسات، وقد نصت المادة 200 من ق م ج «يجب تحت طائلة البطلان أن تتم إجراءات البحث والمناقشة في جلسة علنية» ضمانا أكثر للمتهم بجعل الرأي العام يتتبع كيفية سير المحاكمة وهو ما ينجم عنه التزام أكثر للقضاة في احترام جميع حقوق المتهمين على أنه استثناءا من مبدأ العلنية قد يأمر رئيس الجلسة في سبيل المحافظة على الأمن والأخلاق إجراء جلسة سرية استنادا للمادة 302 كما نجد شفوية إجراءات المحاكمة، على أن الضمانات التي يجب احترامها والإخلال بها يجب أن يؤدي إلى بطلان المحاكمة وهي حق المتهم في مؤازرة من قبل محامي لأنه لا يكون قادرا على مواجهة إجراءات المحاكمة بمفرده إما لعدم تخصصه أو جهله أو لأن خطورة الاتهام وموضعه كمتهم تفسد عليه ملكاته ولا يستطيع التركيز في متابعة دفاعه، الأمر الذي أوجب معه ضرورة استعانة المتهم بمحامي ولا يمكن للقاضي حرمان المتهم تحت أي ظرف من ذلك على عكس ما هو عليه الأمر بالنسبة لوضعية المتهم أثناء مرحلة البحث التمهيدي حيث يحرم من أي مؤازرة.
كذلك من بين الالتزامات التي تقع على عاتق القضاة والتي تعتبر من ضمانات المتهم أثناء المحاكمة حقه في أن يوفر له مترجم إذا لم يكن قادرا على فهم اللغة المستعملة، ومن حقه أيضا مناقشة شهود الاتهام والاستماع لشهود النفي فلكل منهم الحق في أن يستجوب بنفسه أو بواسطة محاميه شهود خصمه وأن يضمن حضور شهوده واستجوابهم تحت نفس شروط استجواب خصمه( ). فالمحكمة بعد استماعها لشهادة الشهود هي ملزمة بفتح المجال أمام المتهم أو دفاعه لمناقشة تلك الشهادة.
وهناك ضمانة في غاية الخطورة تمس جوهر قرينة البراءة وتتمثل في تقديم المتهم للمحاكمة وهو غير مقيد الأيدي بالحديد، حيث إن المبدأ العام لقرينة البراءة يقضي بتمتيع المتهم بكل امتيازات تحمي إنسانيته وتصون كرامته وحريته الشخصية، لذا نلاحظ أنه عندما يحال المتهم ويتم تقديمه في جلسة الأحكام أمام القاضي يجب أن يكون في حالة سراح وغير مكبل بسلاسل احتراما لآدميته، وتطبيقا لمبدأ المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته. لكن نتساءل أهاذا تطبيقا واحتراما لضمانات المتهم أم احتراما للقاضي؟
الواقع العملي يقودنا للقول أنه احتراما للقاضي وليس للمتهم بالمرة، لأنه يكون مقيدا منذ بداية اعتقاله ولا تنفك قيوده إلا في الثواني الأخيرة قبل دخوله جلسة الأحكام ناهيك عن المعاملة الوحشية التي يتعرض لها من ضرب وإهانات، فعن أي ضمانات نتحدث وأي تطبيق لقرينة البراءة !.
وللإشارة أنه في فترة الوضع تحت الحراسة النظرية في مخافر الشرطة القضائية، يتعمد هؤلاء استخفافا وإهانة بالمتهمين من إجبارهم على ارتداء ملابس مقلوبة وتعريضهم لأنواع من التعذيبات لا يمكن قبولها حتى للمتهم المحكوم عليه، فكيف الحال وأنه في تلك المرحلة مازال لم يصدر بعد حكم بإدانته ويتمتع بحقه في البراءة.
هذا، فحتى عندما يحال المتهم على القاضي وهو غير مقيد فإنه يقف في مكان يرجع إلى عهد الرومان عند اكتشاف لأول مرة النظام التنقيبي، وكان قد وضع بالأساس للعبيد ويطلق عليه قفص الاتهام، فكيف يعقل أن تظل مخلفات تلك الفترة بارزة وبشدة للآن في كل المحاكم المغربية. لذا يجب على المسؤولين التدخل وبسرعة لإزالة تلك الأقفاص لأنها مساس بقرينة البراءة والحال ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين واقتضاء بأغلب النظم كالنظام الأمريكي أو النظام الفرنسي أن تتم محاكمة المتهمين وهم جالسين بجانب محاميهم وهم مرتدي لباسهم الرسمي…
هذا ولفت انتباهنا مؤخرا ظاهرة في غاية الخطورة على قرينة البراءة، بل وملغية لها تماما، تعبر عن تواضع تفكير البلاد وجهل القائمين بتطبيق القانون بنصوص المسطرة الجنائية أو تلاعبهم بها والعمل بما يفيد فقط تطلعاتهم وتتمثل في إجبار المتهم على تمثيل الجريمة المتابع بشأنها بكل دقة، وما يزيد الطين بلة أنه لا يقوم بذلك فقد أمام الضابطة ووكيل (العام) للملك، بل يجبر على تمثيلها أمام الرأي العام وتتداولها جميع الوسائل المرئية والمسموعة ويصبح ذلك المتهم المفترض أنه بريء إلى أن تثبت إدانته بحكم نهائي من قبل المحكمة، مدان قطعا أمام الجميع قبل محاكمته.
حيث أن تمثيل الجريمة يدين المتهم قبل عرضه على المحكمة فتنوب السلطة التي ألزمته على القيام بذلك بتحديد إدانته نهائيا لتحيله على المحكمة لتحديد فقد مدة عقوبته لأنها من خلال قراءتها لنصوص م ج اكتشفت أن المشرع لم يمنحها سلطة تحديد العقوبة ولكن مقابل، ذلك منحها سلطة إصدار حكمها بالإدانة ولا نفهم كيف ذلك فيجب إعادة التكوين العلمي والقانوني لهم.
وغير بعيد عنا جريمة سيدي قاسم التي أثارت الرأي العام، وحين أجبرت طبعا المتهمة على إعادة تمثيل كيفية ارتكابها جريمة قتل في حق طفل صغير في الوقت الذي تنص عليه مقتضيات المادة 15 من ق م ج على أن المسطرة التي تجري أثناء البحث والتحقيق يجب أن تكون سرية وأن كل شخص ساهم في إجراء هذه المسطرة هو ملزم بكتمان السر المهني ضمن الشروط وتحت طائلة العقوبات المقررة في القانون الجنائي. بالإضافة للمادة 105 والتي تنص على أن «كل إبلاغ أو إفشاء لوثيقة وقع الحصول عليها من تفتيش يتم لفائدة شخص ليست له صلاحية قانونية للاطلاع عليها دون الحصول على موافقة المشتبه عنه أو ذي حقوقه أو الموقع على الوثيقة أو من وجهت إليه، وكل استعمال آخر لهذه الوثيقة يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة من 5000 إلى 30.000 درهم».
فهاذين النصين كفيلين على البرهنة على سرية إجراءات التحقيق وبالنتيجة عدم مشروعية تمثيل الجريمة، فالمشرع لم ينص عليها عبثا أو لألا تحترم وإنما كانت لها اعتباراتها. فهذا التمثيل يهدر جميع الحقوق والضمانات المخولة للمتهم دستوريا- قانونيا ودوليا في جميع مراحل الدعوى وبالتالي إهدار قرينة البراءة المفترضة لغاية إصدار الحكم، فهنا سلطة المتابعة تولت بنفسها سلطة الحكم وسبق وأشرنا عدم أحقية أي جهة الجمع بين السلطتين. أيضا هناك المادة 303 من ق.م.ج. والتي تنص صراحة على معاقبة كل من يقوم بنشر تحقيق أو تعليق أو استطلاع للرأي العام يتعلق بشخص تجري في حقه مسطرة قضائية بصفته متهما، فسلطة التحقيق لم تستطع استيعاب هذه النصوص والكف عن هذا الإجراء ليس هي فقط، بل أيضا الصحافة، هنا يجب على وزير العدل القيام بخطوة إيجابية متمثلة في تحريك المتابعة الجنائية ضد الوسائل المكتوبة للتخلص هي بدورها من تأكيد التهمة على المتهمين، فلا يخفى على الجميع جرائم أكادير، تارودانت كذلك مراكش وحيث أن المتهم لتتخلص من تعسفات سلطة التحقيق فصل تمثيل الجريمة، وحيث أن المحكمة حكمت عليه بالإعدام وبعد مرور 20 سنة من السجن ظهر المتهم الحقيقي الذي ارتكب الفعل واعترف شخصيا وبكل حرية بأنه هو المذنب الحقيقي مما ترتب معه الإفراج عن الشخص الأول.
فهذه الحالة تغني عن أي تعليق زائد، لقد كفا ما يجب أن يقال ويبقى على السلط الانتباه أكثر لنصوص القانون وعدم إغفالها لقرينة البراءة فإن كان التمثيل يفيد في بعض الجرائم لاستكمال التحقيق فيجب بدوره إخضاعه للسرية وعدم تعميمه على جميع الجرائم.
____________________________
– “محاضرة في الإثبات الجنائي” لمبروك نصر الدين رقم العدد 1032 ، ص58 و59.
وللتعمق في الموضوع، اللواء محمد عبد الرحيم والعقيد حسن إبراهيم والرائد مصطفى رفعت والأستاذ رياض داوود: “التحقيق الجنائي العلمي والفني”، الناشر دار الطباعة القومية، ط. 2، 1969، ص18.
– الغرفة الجنائية للمجلس الأعلى، قرار عدد 49 مجلة قضاة المجلس الأعلى، ص96، عدد 20.
– “إن تشكيل هيئة الحكم يعتبر من النظام العام وللمجلس الأعلى إثارته تلقائيا، إذا كان الحكم المطعون فيه لا يوجد ما يدل على أن الهيئة التي أصدرته هي نفسها الهيئة التي ناقشت القضية ويتعرض الحكم بسبب ذلك للنقض” قرار المجلس الأعلى، عدد 299 (20 يناير 1972) قرارات المجلس الأعلى، ص656.
– ذ. محمد أحداف: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد”، الجزء الأول،الطبعة الثانية، 2003م، مكناس، م.س، ص466.
– قرار المجلس الأعلى عدد 155 تاريخ 5 فبراير 1976 –مجموع قرارات المجلس الأعلى.
– ذ. محمد أحداف: “شرح قانون المسطرة الجنائية الجديد”، ج. 1،م. س. “المحاضر التي لا يمكن إثبات ما يخالفها إلا عن طريق دعوى الزور”، ص474.
– قرار للمجلس الأعلى، عدد 6714 تاريخ 2-10-1986 ملف 19 /9923/86.
– قرار المجلس الأعلى عدد 198 تاريخ 10-2/1977، ملف رقم 37076 . “شرح قانون المسطرة الجنائية”. ذ. أحمد الحمليسي، ج. 2، ص142.
– قرار المجلس الأعلى عدد 1651 تاريخ 11 دبسمبر 1975، ملف 20489 م، س. ص144.
– قرار المجلس الأعلى عدد 244 بتاريخ 9-1-1986. ملف رقم 2910/84 ، م، س. ص146.
– من توصيات المؤتمر العربي الثامن للدفاع الإجتماعي ضد الجريمة 14-16 دجنبر 1977، حظر إكراه المتهم والضغط والتأثير عليه وسيلة مادية أو معنوية للإعتراف بالجريمة.
– قرار المجلس الأعلى عدد 691 تاريخ 24 يونيو 1971، قضية 31065 مجموع قرارات المجلس الأعلى 1966-1982.
– قرار عدد 5695 تاريخ 17-7-1986 قضية 65883 . ذ. أحمد خمليشي: شرح ق م ج، المحاكمة طرف الطعن، ص151.
– قرار المجلس الأعلى عدد 4963 تاريخ 29-5-1984 ق م ع. عدد 38، ص245.
– حين نصت الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية على أنه “لكل فرد الحق عند النظر في أية تهمة جنائية ضده أو في حقوقه أو التزاماته في إحدى القضايا القانونية في محاكمة عادلة وبواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية وقائمة استنادا على القانون”.
– المادة 14/3 من الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية وأيضا المادة 2/3 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire