استقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل خطوة مجهولة العواقب
● لحسن حداد (وزير سابق)
☆النقاش الدائر حاليا حول نقل اختصاصات الإشراف على النيابة العامة من وزارة العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، جاء متأخرا بشكل كبير. لقد كان نقل هذه الاختصاصات إحدى التوصيات المهمة التي خلص إليها الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، منذ أكثر من ثلاث سنوات. كان من الواجب إثارة هذه الأمور في حينها، خصوصا أن حتى مصطفى الرميد، وزير العدل في حكومة عبد الإله بنكيران، لم يكن آنذاك متحمسا لعملية النقل هاته. لو كان هناك نقاش موضوعي عميق بعيدا عن الحسابات الظرفية السياسيوية لما وصلنا إلى هذه اللحظة التي تمثل خطوة نحو المجهول دون معرفة دقيقة بالتبعات المحتملة.
المدافعون عن تولي الوكيل العام لدى محكمة النقض صفة رئيس النيابة العامة بدلا من وزير العدل ينطلقون من مبدأ استقلالية القضاء المنصوص عليه صراحة في الفصلين الـ107 والـ109 من الدستور. والاستقلالية، في نظرهم، تعزز المبدأ الدستوري الخاص بفصل السلط. الاستقلالية هنا ينظر إليها من الجانب السياسي المحض، أي إبعاد القرار القضائي عن أي تأثير سياسي؛ غير أن الاستقلالية كما تفهمها دول لها تجربة كبيرة وطويلة في مجال العدل، كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة، هي أمر مهني وليس سياسي: أي أن المحاكم لا تؤثر عليها الحكومة أو المنتخبون، ومتابعة القضايا من لدن النيابة العامة تكون من أجل حماية الحقوق والممتلكات واستباب أمن المواطنين والمؤسسات. ما عدا ذلك، فالإشراف يبقى في جانبه الشكلي سياسيا ما دام أن رئيس الدولة في بلد مثل الولايات المتحدة هو من يعين وزير العدل/ المدعي العام، وهو من يعين القضاة الفدراليين وقضاة المحكمة العليا (هؤلاء يبقون قضاة مدى الحياة لتجنب أي تأثير سياسي).
في البداية، أي منذ أواخر القرن الثامن عشر (1798)، كان للولايات المتحدة مدعي عام يعينه الرئيس وكانت مهامه هي المتابعة والترافع حول القضايا أمام المحكمة العليا وإبداء الرأي للرئيس والإدارة حول قضايا متعلقة بالعدل وتطبيق القانون. لم يتم إحداث وزارة العدل إلا في سنة 1870؛ وذلك لمساعدة المدعي العام للقيام بمهامه. منذ ذلك الحين، فالمدعي العام هو كذلك وزير العدل، ومهمته هو السهر على العدل وتطبيق القانون، وهو كذلك محامي الحكومة الأمريكية؛ وحتى فيما يخص أحكام الإعدام على المستوى الفدرالي فهو من يطالب بها أمام المحاكم الفدرالية.
إذن، المدعي العام / وزير العدل هو منصب سياسي، وهو المسؤول الأول عن تطبيق القانون؛ ولكن هذا لا يعني أن له قدرة التأثير على هيآت النيابة العامة الموجودة فوق التراب الأمريكي والتي تشتغل وفق القانون ووفق نظرتها هي لما يجب متابعته والترافع بشأنه.
إذن، هناك استقلالية مهنية للنيابة العامة؛ ولكن المسؤولية الكبرى لتطبيق القانون والتي هي مسؤولية سياسية بالأساس وقضائية كذلك تبقى من اختصاص المدعي العام/ وزير العدل. وجود وزير العدل على رأس النيابة العامة لم يؤثر على قدرة المدعين العامين الفيدراليين في الترافع ضد قرارات الرئيس ترامب، مثلا، فيما يخص منع الهجرة من سبع دول ذات أغلبية مسلمة. ولم يمنع نائب وزير العدل من فتح تحقيق حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح ترامب. وزير العدل الحالي أبعد نفسه رسميا عن التدخل في هذا التحقيق؛ لأنه كانت له اتصالات مع الطرف الروسي، بعد نجاح ترامب في نونبر 2016.
في المغرب، يقع لنا الخلط لأننا نعتبر ما هو سياسي هو بالضرورة مصلحي وينبني على نظرة ضيقة للصالح العام، عكس ما هو تقنوقراطي أو تقني أو بيروقراطي. هذه النظرة الدونية للسياسي هي التي ولدت الخوف من إشراف وزارة العدل على النيابة العامة؛ وهي ما يدفعنا دائما إلى خلق مؤسسات موازية للهروب من تأثير السياسي على الشأن العام. حين نفهم بأن ما هو سياسي ليس بالضرورة مصلحي بالمفهوم الضيق للكلمة، وحين نفهم بأن مزايا ما هو سياسي هو إمكانية المحاسبة عكس مقولة نيابة عامة تمتلك الاستقلالية التامة، آنذاك سنفهم أننا مقبلون على خطوة مجهولة العواقب. إشراف السياسي على القضاء بشكل عام وعلى السياسة الجنائية وعلى تطبيق توجهات الدولة فيما يخص حماية الأمن والممتلكات لا يعني بالضرورة التدخل في قضايا بعينيها أو إعطاء تعليمات حول الأحكام. لا يعني هذا أن السلط غير منفصلة بعضها عن البعض كما نص على ذلك الدستور. للقضاء استقلاليته وللنيابة العامة الحرية في متابعة قضايا حسب القوانين والمساطر. هذه هي الاستقلالية؛ استقلالية مهنية واستقلالية عن التدخل المباشر في القضايا والمتابعات، لا استقلالية بناء جدار عازل بين القضاء وبين ما هو سياسي.
● لحسن حداد (وزير سابق)
☆النقاش الدائر حاليا حول نقل اختصاصات الإشراف على النيابة العامة من وزارة العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، بصفته رئيسا للنيابة العامة، جاء متأخرا بشكل كبير. لقد كان نقل هذه الاختصاصات إحدى التوصيات المهمة التي خلص إليها الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، منذ أكثر من ثلاث سنوات. كان من الواجب إثارة هذه الأمور في حينها، خصوصا أن حتى مصطفى الرميد، وزير العدل في حكومة عبد الإله بنكيران، لم يكن آنذاك متحمسا لعملية النقل هاته. لو كان هناك نقاش موضوعي عميق بعيدا عن الحسابات الظرفية السياسيوية لما وصلنا إلى هذه اللحظة التي تمثل خطوة نحو المجهول دون معرفة دقيقة بالتبعات المحتملة.
المدافعون عن تولي الوكيل العام لدى محكمة النقض صفة رئيس النيابة العامة بدلا من وزير العدل ينطلقون من مبدأ استقلالية القضاء المنصوص عليه صراحة في الفصلين الـ107 والـ109 من الدستور. والاستقلالية، في نظرهم، تعزز المبدأ الدستوري الخاص بفصل السلط. الاستقلالية هنا ينظر إليها من الجانب السياسي المحض، أي إبعاد القرار القضائي عن أي تأثير سياسي؛ غير أن الاستقلالية كما تفهمها دول لها تجربة كبيرة وطويلة في مجال العدل، كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة، هي أمر مهني وليس سياسي: أي أن المحاكم لا تؤثر عليها الحكومة أو المنتخبون، ومتابعة القضايا من لدن النيابة العامة تكون من أجل حماية الحقوق والممتلكات واستباب أمن المواطنين والمؤسسات. ما عدا ذلك، فالإشراف يبقى في جانبه الشكلي سياسيا ما دام أن رئيس الدولة في بلد مثل الولايات المتحدة هو من يعين وزير العدل/ المدعي العام، وهو من يعين القضاة الفدراليين وقضاة المحكمة العليا (هؤلاء يبقون قضاة مدى الحياة لتجنب أي تأثير سياسي).
في البداية، أي منذ أواخر القرن الثامن عشر (1798)، كان للولايات المتحدة مدعي عام يعينه الرئيس وكانت مهامه هي المتابعة والترافع حول القضايا أمام المحكمة العليا وإبداء الرأي للرئيس والإدارة حول قضايا متعلقة بالعدل وتطبيق القانون. لم يتم إحداث وزارة العدل إلا في سنة 1870؛ وذلك لمساعدة المدعي العام للقيام بمهامه. منذ ذلك الحين، فالمدعي العام هو كذلك وزير العدل، ومهمته هو السهر على العدل وتطبيق القانون، وهو كذلك محامي الحكومة الأمريكية؛ وحتى فيما يخص أحكام الإعدام على المستوى الفدرالي فهو من يطالب بها أمام المحاكم الفدرالية.
إذن، المدعي العام / وزير العدل هو منصب سياسي، وهو المسؤول الأول عن تطبيق القانون؛ ولكن هذا لا يعني أن له قدرة التأثير على هيآت النيابة العامة الموجودة فوق التراب الأمريكي والتي تشتغل وفق القانون ووفق نظرتها هي لما يجب متابعته والترافع بشأنه.
إذن، هناك استقلالية مهنية للنيابة العامة؛ ولكن المسؤولية الكبرى لتطبيق القانون والتي هي مسؤولية سياسية بالأساس وقضائية كذلك تبقى من اختصاص المدعي العام/ وزير العدل. وجود وزير العدل على رأس النيابة العامة لم يؤثر على قدرة المدعين العامين الفيدراليين في الترافع ضد قرارات الرئيس ترامب، مثلا، فيما يخص منع الهجرة من سبع دول ذات أغلبية مسلمة. ولم يمنع نائب وزير العدل من فتح تحقيق حول تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح ترامب. وزير العدل الحالي أبعد نفسه رسميا عن التدخل في هذا التحقيق؛ لأنه كانت له اتصالات مع الطرف الروسي، بعد نجاح ترامب في نونبر 2016.
في المغرب، يقع لنا الخلط لأننا نعتبر ما هو سياسي هو بالضرورة مصلحي وينبني على نظرة ضيقة للصالح العام، عكس ما هو تقنوقراطي أو تقني أو بيروقراطي. هذه النظرة الدونية للسياسي هي التي ولدت الخوف من إشراف وزارة العدل على النيابة العامة؛ وهي ما يدفعنا دائما إلى خلق مؤسسات موازية للهروب من تأثير السياسي على الشأن العام. حين نفهم بأن ما هو سياسي ليس بالضرورة مصلحي بالمفهوم الضيق للكلمة، وحين نفهم بأن مزايا ما هو سياسي هو إمكانية المحاسبة عكس مقولة نيابة عامة تمتلك الاستقلالية التامة، آنذاك سنفهم أننا مقبلون على خطوة مجهولة العواقب. إشراف السياسي على القضاء بشكل عام وعلى السياسة الجنائية وعلى تطبيق توجهات الدولة فيما يخص حماية الأمن والممتلكات لا يعني بالضرورة التدخل في قضايا بعينيها أو إعطاء تعليمات حول الأحكام. لا يعني هذا أن السلط غير منفصلة بعضها عن البعض كما نص على ذلك الدستور. للقضاء استقلاليته وللنيابة العامة الحرية في متابعة قضايا حسب القوانين والمساطر. هذه هي الاستقلالية؛ استقلالية مهنية واستقلالية عن التدخل المباشر في القضايا والمتابعات، لا استقلالية بناء جدار عازل بين القضاء وبين ما هو سياسي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire